الأحد، 10 أغسطس 2014

بسم الله الرحمن الرحيم ( مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) الذاريات

      لقد أنعم الله علينا بنعم ظاهرة وباطنة، منها ما علمناها ومنها ما لم نعلم ، فالحمد لله العلي المتفضل  الكبير المتعال ، وإن من أعظم نعمه علينا أن بين لنا ما لنا وما علينا ، وتفضل من فوق ذلك علينا بالرجاء وبالتوبة والمغفرة والرحمة ، وأنذرنا عذابه وغضبه وزفرات نيرانه كي نكون على اتزان لا نحيد فكان فضل الله علينا عظيما وعطاؤه جزيلا .
      وكان مما علمنا هو أن عيش الإنسان ضمن دائرتين الأولى: تسيطر عليه ولا يد له فيها ، والثانية : يتصرف فيها مختارا طائعا او عاصيا . فالأولى : لا يحاسب عليها ولا قبل له في ردها فقد أتي لهذه الحياة وسيذهب عنها وسيعيده الله تارة أخرى، ( مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ) (55) (طه) ، وقد جعل للإنسان عينين ولسانا وشفتين وجعل له رزقه ، واضافة الى ذلك جملة من الأفعال لا طاقة للإنسان فيها تقع عليه فوق إرادته ولا راد لها فهي قضاء من الله فيخضع لها الانسان ويصبر على أذاها وفواجعها ، ويحتسب عند الله  الأجر على ذلك ، وأما الدائرة الاخرى فقد قضى الله ان تكون تحت طاقة الانسان وبقدرته وهي محل الابتلاء والتمحيص والتكليف وانما عليها الحساب والجزاء. ( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) الانسان .
       وان مما قضاه الله ولا يد للإنسان فيه الزرق فهو من الله وحده يقول الله عز وجل : "  إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين  ( 58 ) الذاريات  ويقول :  ( وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) هود )    ولقد كانت نسبة الرزق لله وحده نسبة حقيقية ولا دخل لمخلوق فيها فلا كثرة السعي تزيده ولا قلة السعي تنقص منه فهو قضاء من الله وحده ، والشواهد على ذلك كثيره مبثوثة في كتاب الله عز وجل وفي وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وعليها شواهد في الواقع تكاد لا تحصى ، واننا في هذا المقام ننظر في عبرة عظيمة لا بد لنا ان نعتبر بها وان نعيش ظلا لها وان نأخذ بها ونضعها حلقة لا نتركها ونجعلها في قلوبنا حتى لا ننساها وفي عقولنا نسير بهداها ، وهذه العبرة تتمثل في مقارنة عجيبة في سعي الانسان في هذه الحياة الدنيا فالكل يتجه مجبرا نحو الحاقة والحقيقة نحو الدار الاخرة بشكل جبري متسارع، فالكون الفسيح السابح في ملكوت الله يسير يسبح لله وحده لا ينشغل بغير هذا نحو الاخرة أي الى أجل معلوم عند الله وحده ، وكل دابة في السماء وفي الارض تسير مقهورة نحو الاخرة وقد تكفل الله في هذه الدنيا للكل برزقه ، وأمر الانسان بالسعي لطلبه ولكن الحكمة والدقة تكمن في أن التنافس والسعي والمسارعة والمسابقة انما يكون للآخرة ، فكلما زاد سعيك لها وأقبلت عليها ارتفعت منزلتك، وأما الدنيا وزخرفها فكلما زاد سعيك لها فإنه لن يزيدك من نعيمها ولا من زخرفها الا ما يزيدك وهمك وسواد في قلبك إن كان ذلك على حسب فرض ربك .  ففي الحديث الصحيح الذي يرويه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ ! تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلَأْ صَدْرَكَ غِنًى ، وَأَسُدَّ فَقْرَكَ ، وَإِلاَّ تَفْعَلْ مَلَأْتُ يَدَيْكَ شُغْلاً ، وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ ) رواه الترمذي ، فاعتماد القلب وتعلقه انما يكون على الله الرازق عند طلب الرزق ولا يجوز الاعتماد على كد اليد ولا كثرة السعي ولا طول الوقت في طلب الرزق على حساب الاخرة مما يورث المرء غضب الرب وبؤس العيش وخسران الدارين ,, أعاذنا الله من ذلك وروى الطبراني في الصغير ، عن أنس مرفوعا قال : " من أصبح حزينا على الدنيا أصبح ساخطا على ربه تعالى ، ومن أصبح يشكو مصيبة نزلت به فإنما يشكو الله تعالى ، ومن تضعضع لغني لينال مما في يديه أسخط الله تعالى ، ومن أعطي القرآن فدخل النار فأبعده الله تعالى " . وعن عمرو بن عوف - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فو الله لا الفقر أخشى عليكم ، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم ، فتنافسوها كما تنافسوها ، وتهلككم كما أهلكتهم " متفق عليه ..
        وبالمقابل فإن سعي المرء في طلب الدار الاخرة ابتغاء رضوان الله وطمعا بجناته فإن ذلك هو الخير والفضل والرشاد وقد جعل الله في ذلك التنافس وأعد الدرجات والمراتب والمنازل وجعل ذلك عن ايمان مرتبط بالقلب ليأخذ من المرء كل تفكيره وكل سعيه و جهده واجتهاده .. " تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ " القصص/83. قال الإمامُ عليٌّ رضيَ الله عنه: اليومَ العملُ وغدًا الحسابُ " ويقول عز من قائل : ( إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) المطففين ، ويقول عز من قائل : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) النجم  وقد روى الإمام أحمد عن أم المؤمنين عائشة [ رضي الله عنها ] قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الدنيا دار من لا دار له ، ومال من لا مال له ، ولها يجمع من لا عقل له " وفي الدعاء المأثور : " اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ، ولا مبلغ علمنا " . ويقول عز وجل (مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا ﴿١٨﴾ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَـٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا ﴿١٩﴾ كُلًّا نُّمِدُّ هَـٰؤُلَاءِ وَهَـٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴿٢٠﴾ انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا ﴿٢١﴾ الاسراء قال الإمام أحمد : حدثنا حسين ، حدثنا دويد ، عن أبي إسحاق ، عن زرعة ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الدنيا دار من لا دار له ، ومال من لا مال له ، ولها يجمع من لا عقل له " . وان تصور المرء المؤمن للحياة الدنيا انما يكون بحجمها الحقيقي فنعيمها زائل وكل من عليها فان ... وان السعي الحقيقي المثمر هو سعي الاخرة فهي الحياة الحقيقية وما فيها من نعيم فهو مقيم ، يقول عز وجل : (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) العنكبوت .
وعليه فإننا لا بد ان نعمل بمقتضى الحقيقة المبنية على الايمان وهي أن السعي لحطام الدنيا لن يزيد من حطامها بالكثرة ولن يقل بالقلة وعلى العكس تماما السعي للدار الاخرة فإن الله ينظر لها بمثاقيل الذر خيرا كانت او شرا وما على المرء المؤمن الا ان يكد ويتعب ويجتهد لما هو باق وأن يعطي الدنيا حقها فيما افترض الله ولا يزيد فهي دار فتنة وابتلاء . يقول الله عز  جل : ( يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) ) الزلزلة .
  وفوق هذا فإن المرء المسلم لا يأمن عواقب الامور ولا يعلم خواتيم أعماله فلا بد له والحالة هذه من أن يظل أوابا منيبا لربه طائعا مسرعا في طلب رضوانه يرجو رحمة ربه ويخشى عذابه وان العبد المؤمن ليعيش بين جاذبتين الرجاء والخوف ففوق الفرائض واجتناب المحرمات يتقرب لله عز وجل بالنوافل واضافة لذلك فإنه لا بد له من ان يظل حاضرا ومستحضرا رجاء رحمة ربه ويخشى عذابه فبالرجاء يبقى معلقا بحبال ربه وبالخوف يجعل بينه وبين ما يغضب الله بعد المشرقين ، فيبقى ملتزما متزنا على تقوى من الله ، محققا لولاية ربه بإذنه تعالى ، وإن المحبين الصادقين هم في هذا المقام في مقام المحبة هم في مقام موزون بين الرجاء والخوف.
        فرجاؤهم معلق برحمة الله تعالى والذين لا يخافون إلا الله هم أشد الناس خوفًا من الله تعالى، وقد جمع الله تعالى أركان هذا المقام الإيماني الرفيع في وصفه للملائكة المقربين والأنبياء المرسلين والصالحين العابدين فقال جل جلاله :{أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً }الإسراء57  ولكي يبقى المسلم مطمئناً ومتيقظاً ، يحدوه الأمل والرجاء في رحمة الله ومغفرته وهو كذلك يخشى ويخاف من الله سبحانه قال الامام ابن القيم: رحمه الله ( من استقر في قلبه ذكر الدار الآخرة وجزاءها ، وذكر المعصية والتوعد عليها وعدم الوثوق بإتيانه بالتوبة النصوح هاج في قلبه من الخوف مالا يملكه ولا يفارقه حتى ينجو ).
   فيا حملة الدعوة ايها الراغبون في الله و يا من عقدتكم الصفقة معه طمعا في جنته وخوفا من زفرات نيرانه وفوق هذا وكله ابتغاء رضوانه : اعلموا أن الخوف والرجاء كجناحي الطائر كما ذكر أهل العلم متعاضدان مقترنان ، المسلم يرجوا ما عند الله ولكن يخافه ويخشاه . فلا تميلوا كل الميل لجهة على حساب اخرى ... فالرجاء وحده قد يورث الامل و يضعف الهمم العالية الوثابة بالحق فتسترخي وقد تتقاعص واما الخوف وحده فقد يقود صاحبه الى المغالاة وقد يضع الامور في غير مواضعها فالخير فيمهما معا والزاد وخير الزاد وهو التقوى لا يقوم ولا يكون الا بهما معا .
قال تعالى { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ }الأنبياء90 ومن الأسباب الباعثة على الخوف من الله والرجاء له سبحانه التفكر في الخاتمة والحساب فيما أعد الله سبحانه لأهل طاعته من النعيم المقيم الأبدي وما أعد الله لأهل معصيته إن هو عذبهم من العذاب الذي لا يطيقه بشر.
فاللهم اشهد بأننا نرجو رحمتك ونخشى عذابك قولا وعملا بقلوبنا وعقولنا وجوارحنا فاصنعنا لنفسك واستعملنا ولا تستبدلنا فإنا ضعفاء الا بك فارحم ضعفنا ودبر لنا فإنا لا نحسن التدبير وانا نستودعك قلوبنا وعقولنا وأعمالنا وخواتيمها فاجعلنا على ما يرضيك وعلى حملة دعوة الاسلام والتزام امرك قائمين وقاعدين وقانتين وأحينا سعدا واقبضنا اليك شهداء لا فاتنين ولا مفتونين يا ودود يا ودود يا ودود يا ذا العرش المجيد بك نستغيث ولك نلوذ ونؤوب اليك الخير كله . والحمد لله رب العالمين.
16/3/2014م


السبت، 9 أغسطس 2014

الخبر واقعه و مسؤوليته وآثاره


الخبر واقعه و مسؤوليته وآثاره

        يعتبر الخبر على جانب عظيم لما يترتب عليه من آثار على مستوى الفرد أو الأمة أو حتى العالم ، فكان جديرا أن يستأثر بالعناية والبحث ابتداءا من توصيفه واقعا و تأصيله شرعا وصولا إلى آثاره على كافة الصعد وحتى النتائج المبنية على التبويب الصحيح والسليم له في البناء الشرعي والسياسي .
       والخبر كما ورد في (القاموس المحيط)الخَبَرُ،  محركةً: النَّبَأ. وفي لسان العرب : والخَبَرُ ما أَتاك من نَبإِ عمن تَسْتَخْبِرُ. ابن سيدهالخَبَرُ النَّبَأُ، والجمع أَخْبَارٌ، وأَخابِير جمع الجمع. فأَما قوله تعالى: يومئذٍ تُحَدِّثُ أَخَبْارَها؛ فمعناه يوم تزلزل تُخْبِرُ بما عُمِلَ عليها.
      و الخبر إما أن يكون صدقا أو يكون كذبا وإما أن يكون مقطوعا به أو ظنيا أو مشكوكا به ، ولقد جعل الإسلام ضوابط لأخذ الخبر أو رده وقد حذق المسلمون أخذ الخبر ورده ، كيف لا وقد كان يأتيهم صلى الله عليه وسلم بأخبار السماء وكانوا يضبطونها ويحفظونها وينقلونها ويحملونها رسالة وثقافة  ،وقد اعتمدت قوانين في الضبط والرواية وأحوال الرجال وقد تميز المسلمون بذلك بإعتبارهم هداة وأصحاب رسالة تحوي أخبارا وتشريعات وأحكام نقلت نقلا بالرواية ضمن ضوابط مهمة تفصل الغث عن السمين وتظهر الحق من الباطل ،هذا كله على صعيد أخبار الرسالة . وأما فيما يتناقله الناس من أخبارهم فقد جعل الإسلام ضبط الخير ونقله مسؤولية ضبطت بأحكام شرعية فقد أوجب الصدق وحرم الكذب وأمر بتحري الصدق ممن يأخذ الخبر وجعل المسلم شخصية نبيهة تنظر وتفكر وتقدر لا مجرد وعاء أصم أعمى يستعمله غيره للنقل فقط ، يقول عز وجل :  (( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا))[الإسراء36 .

وينقسم في التعامل مع الخبر الى : أولا: من حيث أخذه أو رده ومعايير ذلك:

       لقد كان إثبات العقيدة بالعقل المبني على الحس وكان أصل الإسلام قطعي و في مفاصل أساسية ثلاثة : الإيمان بالله عز وجل وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن الكريم وقد ورد في القرآن بشكل قطعي أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وحي ( * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) النجم  فكانت أخبار الوحي منضبطة بما تنزل على محمد فهو الحق من ربنا وقد حمل صحابة رسول الله مسؤولية نقل الإسلام لمن أتى بعدهم وقد حفظ الله هذه المجموعة من الزلل إلى أن نقلت الآمة القرآن تترى بالتواتر ونقل معه من السنة قسم متواتر وقسم دون ذلك  لذلك كان المسلمون أول من قد تحملوا مسئولية الخبر من حيث ضبطه أو نقله ولقد جعل الإسلام الكذب جرما عظيما وفعلا شنيعا وحال دون اتصاف المسلم به حيث أجاب صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن المسلم يكذب قال :  "لا..."  وقد رتب الإسلام على الشائعات أشد العقوبات فقد اعتبر للقذف حدا مضاعفا من حيث العقوبة وعدم قبول شهادة القاذف (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) النور، وقد جعل باب في علم الحديث لبحث أحوال الرجال وضبطهم وتزكيتهم وكفاءتهم ، كل ذلك من عناية الإسلام في أن تكون مرتبة الراوي والناقل مرتبة مرموقة معتبرة من اعتبار وعلو الإسلام ورفعته وطهارته لذلك لا يقبل المسلم الخبر الغير منضبط ولا يأخذ من أهل الريبة ولا من الفاسقين إلا أن يتبين وقد اشترط الإسلام في الشاهد أن يكون خاليا من أسباب الفسق وخوارم المروءة وفي ضوابط الأخبار القطعية كالمتواتر فقد اشترط أن يكونوا خمسة من الثقات العدول و يكون الخامس تزكية .. فأي عناية هذه وأي مسئولية ما عرفت البشرية لها مثيلا..؟! كل ذلك لعظم الخبر والنقل في نظر الإسلام كيف لا وهو يتعلق بمصائر العباد وأثر ذلك في الدنيا والآخرة ؟؟ سواء فيما نحكم عليه في الأعراض وفي الأنفس والدماء أو فيما ندين الله به يوم القيامة فالصدق نجاة والكذب مهلكة وضياع وأي ضياع !!! لذلك فإن أخذ الخبر أو رده لا بد أن يكون ضمن ضوابط مهمة نذكرها:

1-   أن يكون له أصل ومصدر ينتهي للحس ولا يكون مجرد وهم فالإسلام إنما جاء ليحكم على الوقائع فيعالجها ولا يبحث في الأوهام من حيث الأصل فهو يبحث في ما يقع تحت إطار العقل ولا يبحث فيما وراءه،
2-    أن يؤخذ عن عدل ضابط لما يسمع وما ينقل فالفاسق لا يؤخذ منه جاء في  الجامع لأحكام القرآن » سورة الحجرات » قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا    قوله تعالىيا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ قيل : إن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيطوسبب ذلك ما رواه سعيد عن قتادة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث الوليد بن عقبة مصدقا إلى بني المصطلق ، فلما أبصروه أقبلوا نحوه فهابهم - في رواية : لإحنة كانت بينه وبينهم - ، فرجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره أنهم قد ارتدوا عن الإسلام . فبعث نبي الله - صلى الله عليه وسلمخالد بن الوليد وأمره أن يتثبت ولا يعجل ، فانطلق خالد حتى أتاهم ليلا ، فبعث عيونه فلما جاءوا أخبروا خالدا أنهم متمسكون بالإسلام ، وسمعوا أذانهم وصلاتهم ، فلما أصبحوا أتاهم خالد ورأى صحة ما ذكروه ، فعاد إلى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره ، فنزلت هذه الآية ، فكان يقول نبي الله - صلى الله عليه وسلم - : ( التأني من الله والعجلة من الشيطان (

3-    أن لا يخالف المقطوع به واقعا أو شرعا لذلك كانت الحاجة ضرورية لتأويل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما نقله الثقات وخالف الواقع :  الحديث  الذي أخرجه مسلم بلفظ( سيحان وجيحان والنيل والفرات من أنهار الجنة ) قال القرطبي : لعل ترك ذكرهما في حديث الإسراء لكونهما ليسا أصلا برأسهما . وإنما يحتمل أن يتفرعا عن النيل والفرات. قال : وقيل : وإنما أطلق على هذه الأنهار أنها من الجنة تشبيها لها بأنهار الجنة لما فيها من شدة العذوبة والحسن والبركة ، والأول أولى ، والله أعلم . 4- أن يكون ذي بال وان لا يكون في فسافس الأمور وتوافهها وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " كفى بالمرء إثما : أن يحدث بكل ما سمع " وقال بعض السلف : ( لا يكون إماما من حدث بكل ما سمع) .فالامة الجادة صاحبة رسالة فلا تهتم الا في اخبار رفعتها وانتصارها ولا تلتفت الا لكل خبر يصب في ذلك سواء كان من قبيل الرعاية الداخلية او كشف الخطط والمكائد او يصب في رسم السياسات على نحو يحقق الانتصار كثمار للأعمال السياسية للدولة والاحزاب الساسية وحتى فيما يخص النواحي الفردية فالفرد انما هو جزء من امة عريقة اصيلة لا يخرج عن طباعها وطابعها واعرافها وحاجاتها وعلى جميع المستويات وفي جميع الشؤون ومن ذلك التعامل مع الاخبار .


5-   ان يوضح ناقل الخبر فلا يزيد عليه رأيه أو فهمه فرب مبلغ أوعى من سامع وإضافة الفهم والرأي تؤثر في فهم من بلغه الخبر على اخلاف كبير بين ان يكون الخبر صافيا أو مزيدا برأي ناقله على انه جزء من الخبر وهذا كله عدا عن انه يكون تدليسا نهينا عنه .

 ثانيا : من حيث العمل به والبناء عليه أو تركه :

       إن الخبر خبران و النقل نقلان فإما ان يكون من قبيل التشريع والعقيدة وإما أن يكون عن أحوال العباد وقد ضبطت الاخبار المتعلقةابالعقيدة والتشريع منذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ونزول التشريع إلى أن دونت الصحاح وما عرف به علم الحديث والذي يعنينا الآن في مقامنا هو ما يضبط الأخبار المتعلقة بأحوال الناس على كافة الصعد مما يتعلق بالإعلام المحلي والعالمي ولما ينبني على ذلك من حساسية وخطورة في اتخاذ المواقف وتحديد السياسات وتقدير الأمور والقيام بأعمال قد تنطوي على مخاطر جسام ، وقد أناط الشارع مسئولية الاعلام بولي أمر المسلمين  لما لها من اهمية قصوى على أمن البلاد والرعية فيعاقب على الاشاعات ويمنع تداول الاخبار المتعلقة بتحركات الجيوش وما يتعلق بأهداف الاعمال السياسية وبالمقابل يحرص على نشر اخبار معينة فيها النفع في انجاح بعض الخطط او ما يكون من قبيل تخذيل العدو . والدليل على ذلك قوله تعالى : ((وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا )) النساء قولهوإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به يقال : أذاع الشيء وأذاع به : إذا أفشاه وأظهره ، وهؤلاء هم جماعة من ضعفة المسلمين كانوا إذا سمعوا شيئا من أمر المسلمين فيه أمن نحو ظفر المسلمين وقتل عدوهم ، أو فيه خوف نحو هزيمة المسلمين وقتلهم ؛ أفشوه وهم يظنون أنه لا شيء عليهم في ذلك . قولهولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم  وهم أهل العلم والعقول الراجحة الذين يرجعون إليهم في أمورهم أو هم الولاة عليهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم أي : يستخرجونه بتدبرهم وصحة عقولهم .

والمعنى : أنهم لو تركوا الإذاعة للأخبار حتى يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي يذيعها أو يكون أولو الأمر منهم هم الذين يتولون ذلك ؛ لأنهم يعلمون ما ينبغي أن يفشى وما ينبغي أن يكتم .  تفسير فتح القدير » تفسير سورة النساء وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في الآية ، قال : هذا في الإخبار إذا غزت سرية من المسلمين أخبر الناس عنها ، فقالوا : أصاب المسلمون من عدوهم كذا وكذا ، وأصاب العدو من المسلمين كذا وكذا ، فأفشوه بينهم من غير أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو يخبرهم به .وعن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كفى بالمرء أن يحدث بكل ما سمع "
وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قيل وقال أي : الذي يكثر من الحديث عما يقول الناس من غير تثبت ، ولا تدبر ، ولا تبين ، وفي سنن أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " بئس مطية الرجل زعموا عليه " . في الصحيح : " من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين " . ويذكر هاهنا حديث عمر بن الخطاب المتفق عليه ، حين بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق نساءه ، فجاءه من منزله حتى دخل المسجد فوجد الناس يقولون ذلك ، فلم يصبر حتى استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفهمه : أطلقت نساءك ؟ قال : " لا " . فقلت : الله أكبر . وعند مسلم : فقلت : أطلقتهن ؟ فقال : " لا " فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي : لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه . ونزلت هذه الآية: ( وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر .

       ولقد كان لحادثة الافك درسا كبيرا تعلم منه المسلمون الشيء الكثير في عدم نقل أي خبر يسمعونه  لما لذلك من خطورة قد آذت بيت النبوة أذا بليغا وقد تؤذي امة بأكملها فالكذب على جيش المسلمين ونقل اخبار المعارك والحديث عن الهزيمة والنصر وتحديد وجهات الجيوش واظهار اهداف الاعمال السياسية واشاعتها والخوض في اخبار اعراض المسلمين والذميين والنقل دون الضبط والتثبت لاي خبر كان من شأنه الوقيعة او اذكاء الفتنة  ، لذلك كله كانت دائرة الاعلام مرتبطة مباشرة ربطا مركزيا بمركز الخليفة ورغم ان دولة الخلافة تقبل العلم والخبر فقط لانشاء أي وسيلة اعلام الا انها تحاسب وتتعسس وتعاقب على التجاوزات بأشد العقوبات  . وكذلك فإن مسئولية الخبر أي خبر مسؤلية الفرد كما هي مسؤلية الدولة بدافع تقوى الله .
         ان عملية تداول الخبر في غاية الخطورة فإن من الاخبار ما يحتاج الى اثبات اصلا ويتم تداوله كحصول الانساب والمصاهرات وانشاء الشركات وأي حدث عادي لا يترتب على تداوله أي اثر سلبي على شرط صدقه وان من الاخبار ما يمنع تداوله مما يتعلق بالاعراض وان كان صادقا لما في ذلك من خطورة الزيادة والمغالاة واشاعة الفاحشة وان مثل هذه الاخبار تحرص على اشاعتها دول الضرار واجهزتها لاشغال الناس واذكاء العداوات بينهم واشاعة الرذية . وان من الاخبار ما يحتاج رغم صدقة لاخراج من أولي الامر والعلم والرجاحة في الرأي تماما كتعامل الصديق رضي الله عنه مع خبر وفاة الرسول وتعامل الصحابة مع اشاعة مقتل الرسول في احد . وكذلك كل خبر يشكل عدم اخراجه الى صدمة قد تحطم الامة او الجيش . وبالمقابل فإن الشرع اباح الكذب  في الحرب وفي الاصلاح وهذا يتضمن نسج اخبار لنقلها مما يدفع مضرة او نحو ذلك وقد اباح التورية  من اجل انجاح الاعمال السياسية ونحوها ايضا مما يكون في المعاريض المغنية عن الكذب فيما لا يجوز فيه الكذب .

 إن نشر الخبر للغير أو كتمه وما ينبغي ان يكون عليه الاعلام  هو مسؤولية الدولة عن الاعلام وتعني  بالضرورة أن هذا الملف على جانب عظيم وعلى خطر جسيم ومسؤولية يتولاها  أولي الامر واصحاب الرأي والعلم ممن يحذقون هذا ، عن معرفة ودراية تتوجها الفراسة .لذلك فإن الدولة تضع يدها على الاعلام وتسن له القوانين التي تضبطه وفق الحكم الشرعي من مثل حظر تناقل الاخبار المتعلقة بتحركات الجيوش واخبار النصر او اخبار تتعلق بأسرار التكنلوجيا  وما يتعلق بالصدارة مما قد تتوصل له دولة الخلافة ان شاء الله ، وكذلك أي اخبار من شأنها اذكاء الفتن او اثارة النعرات الطائفية أو المذهبية والعنصرية والروابط القومية والوطنية واذكاء النزعات الانفصالية أو ما يشيع الفاحشة بين المسلمين أو الرعية . وهذا كله لا يعفي الفرد من مسؤوليته عن نقل الاخبار والرجاحة في التعاطي معها بكل مسؤولية . وعليه فإن الخبر سواء كان مما ينقل كرسالة أو مما ينقل عن أحوال الناس ومعايشهم وأحداث داخلية وخارجية يستأهل كل عناية ودراية ومسؤولية منها ما تحمله الدولة وتطبقه ومن ما يحمله الفرد المسلم بدافع تقوى الله ومن ذلك الحرص والمحافظة على الاعراض والانفس والثمرات ووحدة الدولة والامة وللحيلولة دون تمزقها وتشرذمها بل وأكثر من ذلك ألا وهو أن تتبوأ مركز الصدارة بين الامم وفي العالم أجمع لتقوده نحو الخير العميم .



9/ جمادى الاولى 1435ه الموافق 10/3/2014م

سعيد الاسعد -  فلسطين .
">
 

الخميس، 2 يناير 2014

العمل للخلافة فرض عظيم بدافع الإيمان لا بدافع الأثر المادي العظيم لقيامها ولا يؤثر طول الزمن على الاندفاع لها



        إن الدافع والمسير لنا في كل أعمالنا هو العقيدة الإسلامية باعتبارها قاعدة فكرية وقيادة فكرية ، ويتحدد على أساسها الاتجاه الفكري ووجهة النظر في الحياة وينبعث نورها من القلوب ، و إن من أعظم ما انعم  به الله علينا هو إدراك قيم الأعمال ، فنراعي تحقيقها كما ونراعي أولوياتها ، وإننا نعقل على أساس العقيدة أن القيم أربع – روحية  وخلقية ومادية وإنسانية - وإن الأعمال يتحقق منها عند القيام بها قيمة واحدة وقد تتحقق معها قيم أخرى ، ففرض الحج يحقق القيمة الروحية والدافع له هو الإيمان ومع ذلك قد يحقق الحاج منافع أخرى فيقول عز وجل : " ليشهدوا منافع لهم .." الحج  وكذلك فرض الجهاد مثلا يحقق قيمة روحية إلا انه يورثنا قيمة مادية فنفتح الحصن ونغنم الخيرات وننكأ العدو ونحقق المهابة والعلو في الدنيا ، فإنا بعد رجاء القبول من الله نرقب فتح الحصن وهزيمة العدو، وكذلك حمل الدعوة و الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما نرجو منه ثواب الله وبما يحقق من أجر إلا أننا نحرص كل الحرص على تحقيق النتائج المادية في كسب الأشخاص وإزالة المنكرات.  و العمل لاستئناف الحياة الإسلامية بإقامة الخلافة نقوم به بدافع الإيمان لإرضاء الله فنحقق قيمة العمل الأصيلة وهي القيمة الروحية ، إلا أننا نتوق مع ذلك للعزة والكرامة والرفعة وتغير المجتمع وتحقيق سيادة حكم الله وما يترب على ذلك من النهضة بكافة أشكالها . إلا أن الصلاة والصوم والزكاة فإننا لا نرجو من القيام بها إلا القيمة الروحية فحسب ، إذ لا يصلح معها أن يكون معها أي نفع مادي ..، 
        والبشر من طبعهم استعجال النتائج المادية فيما يرجون منه الأمر المادي ، أو ما يصحب القيمة الروحية من قيمة مادية ، فقد يلتفتون للقيمة المادية وتشدهم إليها فطريا ، فيكثر السؤال : إلى متى الخلاص ؟ وكم بقي لنا للوصول ؟ لقد طالت وضاقت حتى استحكمت حلقاتها ، أما لهذا الليل من فجر يكشف ظلمته ؟!! متى نبايع ؟ ومتى نعقد اللواء ونرفع الراية عن عزة ومنعة ؟ وإننا في هذا المقام لا ننكر على من يسأل ؟ وقد نكون أول من يسأل ؟ فالكل في شوق يتوق للفرج وترنو الأعين والقلوب إلى يوم تشرق فيه شمس الخلافة ، تنشر نورها وحرارة انتصاراتها وتكبيرات مآذنها في مرابعنا بل وفي العالم أجمع .
        وإننا في ظل هذه اللحظة التاريخية الحساسة من عمر الدعوة لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم خير أسوة حيث أجاب السائلين و المستبطئين التواقين للعزة والنصر : " عن خباب بن الأرت قال شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا فقال قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه فما يصده ذلك عن دينه والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون " وهنا أمران لافتان للنظر: ألأول : وهو أن رسولنا الأكرم قد جعل الأولوية هي إعزاز الدين وتحقيق القيمة الروحية ولو أدى ذلك إلى أشد صنوف العذاب ولو بأشد حالات التضحية والصبر على كل ذلك ولا سيما في انتظار النصر وهذا هو جماع الخير  انظر قوله : " فما يصده ذلك عن دينه " فالثبات على المبدأ وأداء الفرض بكل مطلوباته والنضال والكفاح والصراع لأجل ثواب الله ولتحقيق القيمة الروحية مقدم على كل أمر مادي سواه ، فثواب الله هو الغاية المرجوة أولا وأما استجابة الناس للدعوة واستجابة المنعة للنصرة ووصول الحكم والسيادة والغنيمة ورغد العيش والأمن هو الأمر الثاني فالدافع يكون مرتبط في الناحية الأولى فيظل حامل الدعوة ثابت بثبات الدافع تحت أي ظرف . ثانيا : قد أقر الرسول من سأله وأجابه في طلبه وهو الأمن ورغد العيش حيث قال : " حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون " وفي موطن آخر فقد لفت القرآن النظر لتقديم ذات الشوكة للدين على غيرها حيث قال عز وجل : "  وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون" سورة الأنفال فذات الشوكة للدين مقدمة على الغنيمة والنكاية بالعدو وغيره ، وان كانت متحققة معها وهذه حقيقة ضرورية يجب أن يستحضرها حملة الدعوة على الدوام فيما يحقق من الأعمال قيمة مادية مع القيمة الروحية فيتصل قلبه ويستحضر همته بالدافع لتحقيق القيمة الروحية فيظل نشطا مستنفرا ، لا تلين له قناة ، ولا يكترث أو يتأثر بالماديات من حوله ، فيثبت على الحق ولو تركه رفقاء دربه ، أو حتى من يكون قد سبقه و دعاه لهذا الخير، ولا ينتكس لطول المسيرة ولا لتأخر التمكين والنصر- بحسب تقديراتنا كبشر- بل إن من كان دافعه أمر الله وطلب رضوانه ويطمع في ثوابه وجنته فإنه لا يرى من تأخير الله لأمر – بحسب تقديراتنا كبشر – إلا لحكمة هو يعلمها نرضى بها ونسلم لها تسليما. 
       إن التأثر والاقتناع بالمحسوس يكون أقوى من الأمر الغيبي المعنوي لذلك كان المدح والثناء ظاهر في مطلع سورة البقرة " الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ.." البقرة فالانشداد والتأثر والتطلع للأمر المادي يلقي بظلاله على الاندفاع أو التباطؤ أو التراجع في الأعمال لذلك كان الالتفات للغيبيات وإثارة المعاني الإيمانية كي تكون هي الأصل الأصيل هو أمر لا بديل عنه ولا مناص منه حتى يكون التعلق صحيحا والاندفاع طبيعيا سليما آمنا من الفتنة والانتكاس ،فيكون حامل الدعوة قد اخذ بالأسباب التي تحفظه من الافتتان بالماديات فمن تكون هجرته لدنيا يصيبها أو منصب يتسلق للوصول له أو غنيمة يرجوها أو لصحبة قد يتسلى بها فإن أول سقوطه – والعياذ بالله – سيكون عند أول إخفاق أو عدم تحقق لأي أمر من هذه الأمور المادية ، لذلك يجب أن يكون السير بخطى ثابتة راسخة فلا يضر السالكين ولا يضيرهم تجاذبات الوضع الدولي ولا تثبطتهم عن مهمتهم ظلمة الواقع وعثرات النتائج ولا ينتهي بهم المقام إن لم تقم الخلافة اليوم أو بعد غد أم أقيمت هنا أو هناك سواء أحبوا أن تقوم في هذا البلد أم ذاك فهم يرددون بكل ثقة وقوة وصلابة : (لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء) البقرة (﴿ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) . (سورة الأنعام) (فَلَا تَذْهَب نَفْسك عَلَيْهِمْ حَسَرَات)فاطر
        وإن النظرة الواعية الواعدة المستنيرة تري حامل الدعوة مدى حاجة الأمة والمجتمع بل والعالم كله للخير الذي يحمل  فهو إما أن ينشئ شخصية إسلامية أو يزرع وعيا أو يصنع رأيا عاما أو يكسب نصرة و منعة كل ذلك عن درس ووعي يجمع الخيوط ينسجها عن خطة وبعين بصيرة وليس خبط عشواء كل ذلك مرتبط بالإيمان وبرضوان الله فيؤدي كل ما عليه ومن موقع الأمانة التي يحملها لا لطرد عذر أو رفع عتب بل عن إيمان لا يتزعزع وعن يقين لا ريب فيه بأن الناصر هو الله وأنه إذا أراد أمرا هيئ أسبابة  ليكون ولو بعد حين .
إن من أعظم الأسباب التي يجب أن يأخذ بها حامل الدعوة باعتباره صاحب مشروع استئناف الحياة الإسلامية من جديد في ظل تحديات العصر هو أن يحافظ على نفسه من أن تلين له قناة أو تأخذه أمواج الواقع والماديات وتجتاله عن الإيمانيات فهي الدافع أصالة وثمرتها أولوية ثواب الله  فهو خير وأبقى وفي السعي أتقى وأنقى . }إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِين}[يوسف: 90.
  وكما أن الإيمان هو الدافع فإن الثبات مع الإيمان وان الصبر شطر الإيمان وإن النصر من الإيمان وإن تولد اليسر يكون مع بداية العسر قال تعالى : ( فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا ) الانشراح ، وكما تكون الشدة ينزل من النصر مثلها ; ولهذا قال تعالى : ( ألا إن نصر الله قريب ) وفي حديث أبي رزين : " عجب ربك من قنوط عباده ، وقرب غيثه فينظر إليهم قنطين ، فيظل يضحك ، يعلم أن فرجهم قريبالحديث . قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا محمود بن غيلان ، حدثنا حميد بن حماد بن خوار أبو الجهم ، حدثنا عائذ بن شريح قال : سمعت أنس بن مالك يقولكان النبي صلى الله عليه وسلم جالسا وحياله جحر ، فقال : " لو جاء العسر فدخل هذا الجحر لجاء اليسر حتى يدخل عليه فيخرجه " ، فأنزل الله عز وجل : ( فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا ) ،   وانظر إلى عسر بني إسرائيل مع فرعون عندما كان يقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم ففي بداية هذه اللحظات كان قد ولد سيدنا موسى عليه السلام – وهو بداية اليسر- ونشأ وترعرع طوال تلك السنوات القاسية عليهم  وهكذا فإننا ونحن نعيش العسر والضيق ونحن نقلب وجهنا في السماء ونسعى هنا وهناك نطمع في كسب شخص أو صناعة رأي عام أو بلورة فكر أو بناء منعة ونصرة هنا أو هناك فإننا ندرك مطمئنين بأن نصر الله وعزته ستكون على أيدينا رغم طول المسافة ومرارة السنين الطويلة . ومنذ مطلع القرن المنصرم ومع تولد المجدد الشيخ تقي الدين النبهاني رحمه الله كانت بداية تولد اليسر وعندما ولدت دعوة حزب التحرير في هذه الأمة وكلما تعاظم الالتفاف حوله والتأييد لفكرته وكلما زاد أنصاره وزادت منعته كلما كبر اليسر وإننا نحمد الله مطمئنين ونحن تكتحل أعيننا بوصول هذه الدعوة إلى جل أصقاع الأرض تعبر شعوبها ولغاتها وقاراتها حتى أصبحت حالة عالمية وان كانت نقطة ارتكازها محلية في بلاد المسلمين فريع كل ذلك يصب هنا في المركز لينبع الإشعاع القريب بإذن الله فتكون أصداؤه تملأ سمع وبصر العالم و الدنيا كلها .وإننا ندرك عن وعي وإيمان بأن حكمة الله بالغة وأن قدر الله نافذ وإننا لم يبلغنا أين قدر الله سيكون فلم يبلغنا أن نزول الخير سيكون هنا فإن لم يكن أو تأخر بتقديراتنا نقنط !! لا والله بل العكس يجب أن يكون فإن عدم تحديد موطن النصر يفتح الآفاق وننظر بكل تركيز نحو مظانه حتى يأذن الله وحده يتنزل النصر وإزاء هذه الحقيقة الإيمانية فإن قلوبنا معلقة بالله وحده ورجاؤنا معلق به وحده بأن تكون عزة الإسلام على أيدينا ومع هذا الرجاء رجاء قبوله منا ما نقدمه من جهد وتضحية وعرق ودماء وأموال وان تكون مبرورة لوجهه الكريم . وعلى هذا الأساس ومن هذا المنطلق وبهذا الدافع يجب أن يسير ركب الخلافة واثقا مطمئنا بدافع الإيمان بأن الله هو مالك الملك يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء وأنه هو ناصر رسله والصادقين المقبلين عليه من المؤمنين في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد  .
يقول تعالى : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ﴿171﴾ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ ﴿172﴾ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴿173) الصافات ، ويقول جل من قائل ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105إِنَّ فِي هَٰذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ (106)الأنبياء ويقول ( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) غافر
1ربيع الأول 1435 هـ الموافق 2/1/2014م
سعيد الأسعد - فلسطين