الخميس، 16 مارس 2017

العزلة


العزلة
    العزلة هي المفارقة , والتنحي, ومجافاة الناس, جاء في لسان العرب " والعُزْلةُ الانْعِزال نفسُه، يقال: العُزْلةُ عِبادة. وكُنْتُ بمَعْزِلٍ عن كذا وكذا أَي كُنْتُ بموْضع عُزْلةٍ منه. واعْتَزَلْتُ القومَ أَي فارَقْتهم وتَنَحَّيت عنهم" انتهى
·        والعقلية الاسلامية ترى العزلة من خلال مفاهيم الاسلام في التمايز والمفاصلة بين الحق والباطل , ووجوب اعتزال الباطل والمنكرات والفتن , وضمن مفاهيمه في التغير ووجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر, والقول بالحق في كل ظرف, والنصيحة لكل مسلم والمحاسبة لكل مسؤول , وحمل الدعوة في المسلمين وغير المسلمين .يقول عز وجل ﴿وأعتزلكم وما تدعون من دون الله﴾ [مريم/48] ويقول فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۖ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا ﴿٤٩﴾ ويقول ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ﴾ التوبة . ويقول صلى الله عليه وسلم ( الدين النصيحة ) ويقول عز وجل (وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ ) الانعام وقوله (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) التوبة
·         وهي – أي العزلة - مخالفة للفطرة ؛ فالإنسان كائن اجتماعي بطبعه, يحب الالفة , ويختلط مع غيرة فيقضى مصالحه , يأخذ حقه ويؤدي ما عليه , وانما تنشأ المجتمعات بالعلاقات الدائمة؛ وهي مجموع الافكار والمشاعر والانظمة والناس والتي ومن خلالها يتم التأثير والتغير . وحاجة الانسان واتصاله بغيره قائمة منذ آدم عليه السلام والى يومنا هذا بلا خلاف بين البشر. وبهذا تكون العزلة  مخالفة لحاجة الانسان وفطرته, قال تعالى : ( يا ايها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ) .
·         وبالمقابل فقد حرص الاسلام على بناء الروح الجماعية - وهي نقيض العزلة - وجعل  ذلك مسؤولية الفرد والجماعة  والدولة,   فقد جعل كل مسلم على ثغرة من ثغور الاسلام , وقد جعل صمام الامان في ذلك الامر بالمعروف والنهي عن المنكر, وجعله فرض من اعظم الفرائض . وجعل الدين النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم, وكل ذلك يتناقض مع العزلة , بل تعد العزلة آفة ومصيبة ازاء هذه الحاجات الماسة , في بناء المجتمع وصيانته والحيلولة دون انتكاسه , وفي الوقت الذي قدس فيه المبدأ الرأسمالي الفرد واعطاه مطلق الحرية حتى اصبح في عزلة عن مجتمعه يؤثر نفسه ويقدم مصلحته حتى انتشر الفساد وازداد. الا ان الاسلام اعطى الفرد حقة باعتباره جزء من جماعة يقوى بها وتقوى بحراسته  في نسيج منتظم وانسجام تام يراعي فيه الكل والبعض رقابة الله عز وجل, فلا يكتمل ايمان المؤمن حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه , والمؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص و الجسد الواحد, وتخشى الجماعة والحي اذا كان من بينهم أمرؤ جائع ان تبرا منهم ذمة الله ...وهذا الحال لا يتحقق بالعزلة وانما يكون بالاهتمام بأمر المسلمين والسعي في حاجاتهم وبالوقوف على حدود الله وحراستها, انظر قوله صلى الله عيه وسم ((مَثَلُ القَائِم في حُدُودِ اللَّه والْوَاقِع فيها، كَمثل قَومٍ اسْتَهَموا على سَفِينَةٍ، فَأَصابَ بَعْضُهم أعْلاهَا، وبعضُهم أَسْفلَهَا، فكان الذي في أَسفلها إذا استَقَوْا من الماء مَرُّوا على مَنْ فَوقَهمْ، فقالوا: لو أنا خَرَقْنا في نَصِيبِنَا خَرقا ولَمْ نُؤذِ مَنْ فَوقَنا؟ فإن تَرَكُوهُمْ وما أَرَادوا هَلَكوا وهلكوا جَميعا، وإنْ أخذُوا على أيديِهِمْ نَجَوْا ونَجَوْا جَميعا)[رواه البخاري عن النعمان بن بشير]. وليس لأمر هين يقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قَال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ ).... والصبر على اذى الناس لا يكون الا بالصبر على امرهم ونهيهم ونصيحتهم من اجل تقويم اعوجاجهم وتغير احوالهم على نحو يرضي الله ورسوله , وهنا يكون الابتلاء والتمحيص والصبر, وهنا لا بد لنا من الانتباه على ان العزلة المنكرة في المفهوم الشرعي , تكون بقطع الاختلاط والاتصال بالناس لدعوتهم الى لخير وامرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر. وليس أي اختلاط او أي اتصال دنوي فرب تاجر يمضي ليله ونهاره في الاسواق وبين الناس , الا انه لا ينصحهم ولا يدعوهم ولا يأمرهم او ينهاهم فهو في عزلة , لأنه لا يقوم من مقامه لخير الدنيا والاخرة . وأما الرجال الذين يصلون ليلهم بنهارهم قد لا يخالطون الناس لدنياهم ويقومون ويخططون لخير المسلمين ويدلون على الخير, فيكونون حراسا امناء للإسلام يظن البعض انهم في عزلة الا انهم على العكس من اولئك فليسوا سواء بل هم بذلك ابعد ما يكونون عن العزلة , وان لم يراهم الناس في اسواقهم . ومن شدة الحرص قال نبينا ("لأن يمشي أحدكم مع أخيه في قضاء حاجةٍ وأشار بأصبعه أفضل من أن يعتكف في مسجدي هذا شهرين" وكم من حاجة من امهات الحاجات قد تكون بالسر لا بالعلن؟؟.
·          ان عزلة المسلم لا تكون الا في حالة واحدة ضمن مفهوم وجوب أن يعصم نفسه من الفساد والاثم والفتنة فيكون المسلم حلس بيته ولا يسعه الا بيته ويكسر سيفه .ولكن بالمقابل والاهم من ذلك هو السعي والاندفاع لوأد الفتنة والسعي لتغير المنكر وتغير الفساد كيف لا وهو يرى ان دار الكفر في الارض كلها يجب ان تتحول لتصبح دار اسلام , وليست القضية ولا تنتهي المهمة ان يهرب المسلم من الواقع بحجة فساده وخشية افتتانه به !!! بل الواجب عليه ان لا يقبل العيش في مستنقعات الفتن والكفر والرذائل فيعتزل من الواقع أدرانه فلا يجعله مصدر تفكيره ويقوم عليه فيضعه موضع تفكيره لتغيره .
·        وعليه فان العزلة هي حالة غير طبيعية تعتري الفرد استثناءا: اما لخلل فيه تجعله سلبي يعيش نشازا, او لخلل فيما حوله لا يقوى على إصلاحه بمفرده , فينفر منه. والحالة الأولى تجدها فيمن ينفر من النور ويهوى الظلمات فهي مهلكة. واما الثانية بعكسها ومثال عليها عندما اعتزل صلى الله عليه وسلم قومه قبل بعثته وهم في ظلمات الجهل والجاهلية وكان يتحنث في الغار. ومن قبيل هذا ما حصل مع نبينا ابراهيم عندما اعتزل قومه وما يدعون من دون الله. وهنا قضية في غاية الاهمية وهي ان العزلة عن الجاهلية او الظلمات انما هو مفاصلة , لا هروبا ولا رضى بالواقع او استسلاما له , وهي حالة للوثوب والاستعداد للبذل والتضحية والولوج في الجماعات والمجتمعات بغية تغيرها بتبديد الظلمات واشاعة النور وهذا هو عين ما حصل مع الانبياء وخير شاهد على ذلك قوله عزو جل ( يا ايها المدثر ) ويطلب نقيضها وهو( قم فانذر) فلا عزلة ولا راحة عند التكليف .
·        ان الامة الحية لا تعرف العزلة ولن تجد فيها بذارها, والأمة صاحبة الرسالة الخالدة لهي اكثر حيوية على الاطلاق , فالدعوة للإسلام والامر بالمعروف والنهي عن المنكر هي مكونات خيريتها والدافع والمحرك لها على الدوام . والعزلة بضاعة أعدائها وفيها مقتلها وان وجدت تكون أمارة انهيارها او انحطاطها. وان الامة صاحبة الرسالة  كلها يقظة وانطلاق داخليا تحافظ على بقاء مبدئها حيا في حياة الفرد والدولة والمجتمع , وخارجيا تنطلق بالاتصال بكافة الاشكال وعلى نحو لافت مؤثر تظهر فيه عظمة مبدئها وقوة تأثيره في العلاقات الدولية تسير تصاعديا لتحقيق الغاية القصوى .
·        وتظهر العزلة في الأمم والشعوب الضعيفة حيث الياس وانعدام القيم وعدم وجود غايات وطموحات بعيدة ترتبط بها ارادت صلبة وعزيمة اكيدة وهمم عالية وثقة قوية بالنصر والرفعة حيث تشكل كل هذه الأمور دافعا ومحركا للاتصال والتحرك والاندفاع لقيادة العالم .
·         وان كان اهل الباطل والظلمات قد رفضوا العزلة والانغلاق والانكفاء فيحملون الشر ويخربون العالم يقطعون افاق الارض لأجل ذلك, فإننا –والله- الاولى في ترك العزلة والانغلاق والانكفاء يقول عز وجل (أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122) الانعام , وإن من أبلغ ما قيل ( و الفكر لا يطيق أن يكون حبيسا ) فكيف به إذا كان هو الدين الحق ؟ و ان الحق قائم برجاله وهم به اشد ساعدا واعلى همة واجزل عطاءا , فلا يرضون بالدونية و يمقتون العزلة , فلا تحدهم اوطان ولا تقيدهم قومية ونظرتهم ليست اقليمية بل وعيهم هو بالنظرة العقدية للعالم ومن زاويتها باعتبارها القيادة الفكرية الصحيحة ,
·        وان كانت العزلة يأباها من يدعو لوطنية او قبلية او قومية او أي جاهلية الا ان العزلة ابعد وابعد عمن تربى على المبدئية وهمه وقضية وجوده هي ظهور الاسلام على الدين كله بعد ظهوره في سلطان ودولة . نعم نحن امة رباها نبيها على ان تبلغ بدينها ما بلغ الليل والنهار, وانه لا يرضيها الا ان يعز الاسلام فيما زوى الله لنبيه من الارض مشارقها ومغاربها, فكيف بنا والحالة هذه ان يتسرب لنا مجرد التفكير بالعزلة ونحن بهذه المكانة ونقتعد تلك المنزلة ؟!!.
·        ان العزلة لا تكون عزلة الجسم بل هي عزلة الاتصال والتواصل  بالغير دعوة للخير وهي وعزلة التأثير على هذا النحو, وقد يكون المرء موجودا وسط الناس يبيعهم ويقاضيهم ويصلي معهم ولكن لا يتصل بهم اتصال من يحمل لهم الخير ويبتغي لهم الفضل. فالمعيار هو ان يكون المسلم حاملا للدعوة آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر يتمثل فيه الاسلام قولا وعملا , ولا يكون امعه ان احسن الناس احسن وان اساؤوا اساء, فيكون كمن لا يكون, في وسط الناس يظن انه موجود الا انه يعيش عزلة . وإن مما يندى له الجبين هو بعض العلماء المفوهين وذوي الاقلام السيالة والاطلالة الآسرة اللامعة وعلى كثير من المنابر الاعلامية ولكنهم لا يظهرون من الاسلام الا اليسير ولا يطرحونه كرسالة ولا يظهرون قضية حرمة غيابه في السياسة والدولة وأن المسلم لا بد له ان يتصل اتصالا واعيا على من حوله و يقودهم لكل بر ويسعى بهم لكل خير وهم بذلك أي -هؤلاء العلماء–سواء كانوا يعلمون أو لا يعلمون- فهم في عزلة وأي عزلة!!!!!.
·        و العزلة هي مزيج من الجبن والياس وهذا لا يجوز ان يتسرب لنفسية من يسعى للتأثير والتغير؛ فالشجاعة  سجيته والنفسية الواثقة بتحقق وعد الله هي نفسيته , والتحلي بجميل الصبر حلة قلبه وثمرة ايمانه, وبهمم كالجبال الراسيات تعلو همته , ورغم طول الطريق وما قد يراه من تجمد وتجلد المجتمع , ونفور العامة, واحاطة الاعداء به, كل ذلك لا يدفعه نحو العزلة , بل يزداد عنادا واندفاعا, ورغم الضغوط القوية الباعثة على الجبن في القلوب و الياس في النفوس ورغم ما قد يسمعه من البعض ممن افتتن وقال: (لا خير في الناس,)( ولا امل في المنعة), (والجيوش وهم, فقد هلكت الجيوش وهلك الناس ), و(لا خير فيهم ولا فائدة للصبر عليهم), (تمضى السنون ويزداد الاذى فليس لنا الا غنم نبتغي بها شعاب الجبال , وليس خير لنا من ان نكون احلاس بيوتنا فلتسعنا ونبكي على خطيئتنا ), وكل هذه الاقوال يعتريها خلط  في فهم النصوص التي ساقها الاسلام في وجوب هروب المسلم من الفتن وحرمة ان يكون جزءا من وقودها او اعتزال الاحزاب والجماعات القائمة على غير العقيدة الاسلامية . والخلط في الفهم هذا  لا ينطلي على من وعي على الاسلام ونظر بنور الله, فعرف من الاسلام فكرته وكانت هي نواته وسر حياته , وأبصر منها طريقته فجمع بين نقاء الفكرة واستقامة الطريقة , وعلى ضوء ذلك حدد هدفه,  فوعي انه في الوقت الذي يعتزل فيه الفتنة يثبت فيه على حمل الحق لا يخشى في الله لومة لائم فلا سبيل لبذور العزلة ان تجد سبيلا لقلبه او عقله.
·        . لقد كان صلى الله عليه وسلم بالمرصاد لدعوات العزلة  قائلا: ( من قال هلك الناس فهو اهلكهم ) وقال (من خالط الناس وصبر على اذاهم خير ممن لم يخالطهم...) .وايضا فانه لم يأمرنا صلى الله عليه وسلم بغنم نبتغي بها شعاب الجبال الا زمن الفتنة وفي أبلغ دلالة على البعد عنها فلا نكون وقودها الا انه حملنا امانة وأدهها .نعم هذه هي النظرة العميقة المستنيرة للعزلة وهذا هو واقعها وتأصيلها شرعا .
·        والخلاصة : فالعزلة ليس لها الا معنى واحد وهو ايجابي وهي المذكورة في جملة من النصوص كقوله عليه الصلاة والسلام ( فاعتزل تلك الفرق كلها ) وقوله تعالى ( واعتزلكم وما تدعون من دون الله ) وقوله ( فلما اعتزلهم )  وهي التي تكون للمحافظة على النفس والدين وعصمة الدم والدين في زمن الفتنة والتي لا يعلم فيها العامة الحق من الباطل , وكذلك اعتزال الفرد الفرق والاحزاب القائمة على غير العقيدة الاسلامية وكذلك اعتزال مجالس المنكر اذا لم يكن قادرا على تغيرها ولا يعني بقاؤه الا ترك الانكار ولكن كل ذلك ليس هروبا من الواقع وانكفاءا اخيرا وترك الامور على عواهنها وانما هو اعتزال مفاصلة واعتزال للثبات على الحق وللوثوب والوقوف والعزم للتغير تارة أخرى . وعليه فلا نكون البتة في عزلة ونحن على خطر عظيم ,ولا نترك الكافر والقاصر يعيث في امتنا وديننا وديارنا واجيالنا فسادا وضلالا ونحن حملة الحق واهل الديار واصحاب الرسالة الربانية الخالدة الظاهرة على الدين كله . ولا نعلم العض على اصل الشجرة الا عضة اوصانا بها نينا حين قال (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الرشدين عضو عليها بالنواجذ ) انها سنة ليس فيها عزلة بل هي اتصال بالعالم وهي سنة (انفذوا بعث اسامة ) وهي ابعد الحدود عن العزلة وهي اعلى درجات السلم في التواصل وهي ذروة سنام الاسلام كرسالة وهي بهذا ابعد نقطة على الاطلاق عن العزلة ,. بذلك قد نشأت عقولنا وجبلت نفسياتنا الاسلامية كخير امة اخرجت للناس وبغير هذا يكون التنكب والانتكاس والعزلة والضياع.
·        ان الضمانة للقضاء على العزلة المهلكة  تكون :1- بالوعي على واقع العزلة وخطورتها وبلورتها على نحو ما بيناه آنفا ومحاربتها والتحذير من مخاطرها 2- باستمرار يقظة المسلم حامل الدعوة على مكانته التي حباه الله بها , والامانة التي كلفه الله بحملها وهي تمثل شرطي الخيرية في الامة وفي اقامة أحزاب في الامة وهما بعد الايمان الدعوة للإسلام والامر بالمعروف والنهي عن المكر. ومن أبرز الاعمال وأظهرها القوامة على فكر المجتمع وحسه للحيلولة دون انتكاسهما. 3- وان الضمانة في القضاء على العزلة تكون ايضا في دوام العيش بمعاني سورة العصر عيش التواصي بالحق والتواصي بالصبر, والعيش على معاني (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) الكهف . وبالجملة فان خير ما نغذ به السير ونسارع به الخطى يكون بالتفاني والتنافس في حملنا للدعوة لإقامة الدين باستئناف الحياة الاسلامية فهو خير ما نصلح به امر الامة فنقضي على العزلة  الافة في جميع حالاتها سواء على مستوى الافراد او على مستوى الامة بكل جدارة ونشاط وذلك هو جماع الخير العميم. يقول عز من قائل: ( أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) 122/ الانعام . والحمد لله رب العالمين.

20/9/2016م

الحكمة في الخطاب ضرورة أكيدة ومهمة عظيمة

الحكمة في الخطاب ضرورة أكيدة ومهمة عظيمة
         اقتضت حكمة الله عز وجل ان يكون الناس مختلفين في عقولهم وأهوائهم متفاوتين في افهامهم و مقاصدهم , وفي  تحقيق مصالحهم , ولازم الحال أنه  : لن  يستقيم الامر حتى يجتمع الناس على نظام وان يكون فيهم امام , وحتى يجتمع الناس على رأي وهدف , وحتى يلامس نور الحق بشاشة قلوبهم فيألفوه ويتبنوه ويحملوه, كانت الحاجة الى حسن مخاطبتهم بالحكمة , و الصراحة وصدق اللهجة . وخير وأي خير؟ أن نأخذ الحكمة من مظانها حتى نحذقها, فنضع الامور في موضعها ,فنأخذ بأحسن الخطاب وأحكمه  حتى نؤديه على وجهه , ونكون بذلك المؤمن الانف الذي يألف ويؤلف ينطق بالصدق وقد صدقه , فننعم بالتقوى والحكمة  ثمرتها لنظل موضع الثقة ومحل القيادة  (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33)الزمر, فبلوغ الحكمة  توفيق من الله عز وجل , عمادها التقوى وقوامها فهم عميق مستنيرعن علم وروية, ونقاء سريرة , تسددها الاستشارة , وتحيطها الاستخارة. يقول عز وجل:
 ( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ) 269 البقرة.
      1-  والحكمة : هي وضع الامور في مواضعها , ولا تكون الا بغلبة العقل على الهوى , وهي أي الحكمة  بمنزلة الحقائق من الافكار , وثمرتها سداد الرأي والرشد في القول والفعل . وانما تجمع الحكمة في كنانتها : التقوى وهي طريق التوفيق للحكمة  بما تحتاجه من الذكاء وقوة الربط العميق والمستنير, اضافة للاحاطة والتجربة , وثراء الخبرة , والشورى . ورد في لسان العرب (وقيل: الحَكِيمُ ذو الحِكمة، والحَكْمَةُ عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم. ويقال لمَنْ يُحْسِنُ دقائق الصِّناعات ويُتقنها: حَكِيمٌ ). ولما كانت الحكمة هي حاجة الحاذقين في أمر الدنيا لنيل زهرتها, فهي بالأولوية حاجة من يسعى لخيري الدنيا والاخرة  ,والحكمة  تعني :  تجنب العثرات , واقتناص الفرص لتحصيل القفزات , وتجاوز الازمات لبلوغ أقصى الغايات , حتى تصل الحكمة  بأهلها للمعالي , فيبلغوا ذرى المجد في الدنيا والجنة و رضوان من الله في الاخرة .( والاخرة خير وأبقى ) , يقول صلى الله عليه وسلم في اشارة للحكمة (((الكيِّسُ من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها، وتمنَّى على الله)) رواه الترمذي وقال حديث حسن.
   2-  وان الحكمة  هي ضالة المؤمن حامل الدعوة وهو أحق بها وأهلها , فلا يتبع الهوى فيضله عن سبيله , ولقد أرشد الاسلام المسمين عامة وأولي الامر وأصحاب الصلاحية خاصة الى ما يبلغهم الحكمة والرشاد , ومن ذلك اضافة الى استقصاء المعلومات عن الواقع والاحكام الشرعية المتعلقة به , أرشد لضرورة الشورى وهي حالة فريدة لا تجدها مبلورة نقية ومرتبة ومبوبة الا في الاسلام . ولقد أحاط الشرع الشورى بمعية الله وتوفيقه وذلك بالاستخارة والتوكل , فتكون الحكمة في أرقى وأرشد حال وأعلى منزلة , هذا هو حال المسلم وحامل الدعوة وأولي الامر وأصحاب الصلاحية من المسلمين , يقول عز وجل مادحا المؤمنين ( وامرهم شورى بينهم ) ويقول الصادق المصدوق (ما تشاوَرَ قومٌ إلاّ هُدوا لأرشدِ أمرِهم) وبقوله أيضا (مَن أرادَ أمراً فشاوَرَ فيهِ امرءً مسلماً وفّقَهُ الله لأرشد أموره). ولقد كانت الحكمة  في اشارة الحباب بن المنذر للرسول صلى الله عليه وسلم  في بدر فأصاب الرأي  والرشد في الفعل والى اقتناص الموقع الاستراتيجي فكانت الحكمة غوثا للمسلمين في اوج المعركة وكارثة على الكافرين,  وكان لرأي اغلبية المسلمين فيما يؤدي الى عمل في معركة احد في الخروج لملاقاة العدو عين الحكمة في جمع الحمية والعزيمة ورفع الروح المعنوية في المسلمين فأظهر شجاعتهم وهيبتهم في خروجهم من المدينة لملاقاة عدوهم , وكان النصر حليفهم في اول الامر.. وظهرت الحكمة  بما امر به الرسول الرماة بالبقاء وحذرهم مما يقضى على حكمة الراي  والفعل وهو اتباع الهوى فيما تهواه الانفس من غنيمة, ولنعد لبدر وهو الدرس السابق لدرس احد انظر قول الله العليم (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) الانفال نعم علمهم اين تكون الحكمة  فالرؤيا قد يشوبها ما تهواه الانفس من غنيمة فيمنع ذلك بلوغ الحكمة وهي ذات الشوكة فهي اعظم من العير وما تهواه الانفس. ولقد كان موقف ابي بكر رضي الله عنه تعقيا على وفاة صاحبه وأحب الخلق اليه رسول الله صلى الله عليه وسلم – عين الحكمة وسفينة النجاة للمسلين في مفصل تاريخي حساس من عمر الاسلام العظيم , فاختار الكلام الواضح بأقل عبارة وأبلغها (ألا من كان يعبد محمدًا ، فإنّ محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت) ،ولم ينتدب أحدا عن نفسه وهذا من روح الحكمة  فوجود القائد بشخصه رغم الالم والجهد والمشقة والمخاطرة له وقعه وبالغ أثره, وكذلك حكمة حزمه كانت ظاهرة في القضاء على حالة الردة والتمرد على الالتزام بدفع الزكاة في منعطف خطير من عمر دولة الاسلام رغم ما لحق المسلمين  من خسارة كبيرة قتل فيها جمهرة من الصحابة الكرام وحفظة القرآن . فلا مفاوضه ولا مساومة في تطبق أحكام الله عز وجل مهما كانت النتائج.
     3-   ان من اهم الظروف والاحوال التي تحتاج للحكمة هي أهوال النوازل , وظلمات الفتن , والمفاصل التاريخية من عمر الامم, وأشد العصور والاوقات هي التي  تكون فيها الامة بلا راع يحمي حماها , ويحفظ  بيضتها , يقودها بحكمته وحسن رعايته. ولقد اقتضت حكمة الله بأن يكون في المسلمين فوق كونهم بجملتهم جماعة وعليهم امام وجوبا , فوق ذلك أوجب عليهم وعلى الدوام وفي كل عصر أن يكون منهم جماعة أو حزبا أو أحزابا تكون بمثابة البوصلة وبيتا للحكمة في المسلمين , وحدد اصل تكوينها وشرط  بقائها وهو حراسة الدين بالدعوة له وبالعمل السياسي الواعي , وهي على هذا الحال وتلك العدالة وصفها بالفلاح , وهذا أمارة على الحكمة , يقول عزو وجل (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)) و قد انبرى الحزب –مستعينا بالله القدير- لهذه المهمة يقوم في الامة ومعها يشرف على حسها وفكرها قوامة بالحق والحكمة , وهذا يلقي بالمسؤولية على الجميع بأن يتحلوا بالحكمة وأن يأخذوا بأسبابها وأن يطلبوها من مظانها , فهم قد حذقوا موارد الابل فيوردوها مواردها , ويدركون نقاط الضعف ومن أي توكل الكتف فيحيطونها. يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ( لست بالخب ولا الخب يخدعني ) وكما قال صلى الله عليه وسلم ( المؤمن كيس فطن). ولقد وعينا أن من الحكمة  أن لا ننشغل بالصخور والمعيقات اللحظية عن القضايا الكبرى ,ومن الحكمة أن ننطلق منطلق الهجوم في صراعنا الفكري فلا ندافع دفاعا كي لا نقبل بالتهمة , ومن الحكمة أن نطرح رأينا بكل قوة دون تردد فهو يتسم برجاحة وقوة تمنحنا الثقة والقوة , ومن الحكمة  نتبين الفرق بين مخاطبة الظلامين والمضبوعين والمناكفين والحيارى , ومن الحكمة الوعي على أن المواقف الضعيفة يصيرأصحابها في المناقشة الى تناول الاشخاص بدل الافكار , ومن الحكمة نمقت الطبقية فلا تظهر في لحن خطابنا عدا عن صريحه , ومن الحكمة عدم التنازل عن المبدئية تحت أي ظرف فالتنازل مهما قل فهو انتحار, ومن الحكمة أن لا نكافح الحركات الاسلامية سياسيا ولا نعتبرها خصما  بل ندعوها ونثقفها كجزء من الامة , الا اذا وصلت للحكم فتأخذ واقع الحكام, ومن الحكمة ان نرسم الخط المستقيم دوما بجانب الخطوط العوجاء , ومن الحكمة عدم الانتقال من الاحساس الى العمل بل الانتقال من الاحساس الى الفكر المتصل بغايته ومرتبطا كل ذلك بالإيمان ثم يكون العمل بكل هذه المعاني تكون المواقف الحكيمة الرشيدة . ومن الحكمة متابعة الاقوال والافعال ومراقبة جدية تحقيق ثمارها وقياس ذلك فيما دق أو جل.
      4-  ان الهوى آفة الحكمة و اولى دركات الضلال (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ۚ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) 28 القصص. ومما دلنا عليه القرآن من الحكمة أن المرجعية لا بد أن تكون لأولي الامر وأصحاب الصلاحية في الامور المفصلية والحساسة ولا سيما في التعاطي مع الاخبار يقول عز وجل (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) وكذلك قول رسولنا في ضابط من اهم ضوابط الحكمة وهو خطورة نقل الكلام على عواهنه والحديث بكل ما تسمع ( بحسب بن ادم من الشر ان يحدث بكل ما يسمع ) وكما قيل (لكل مقام مقال, وليس كل ما يعلم يقال ). وعليه كانت الحكمة هي في أن نفرق بين نقل المعلومة  كخبر أو نقلها مع رأي الناقل وما قد يهواه ويتمناه وسوقها على انها خبر صرف. وهناك فرق بين ضبط الخبر عن سلسة  متصلة بالواقعة أو المصدر ونحوه , أو عكس ذلك فكل هذه التفاصيل والدقائق مهمة جدا في بناء الرأي عن حكمة ودقة .
    5-   إن من أعظم ما انعم به الله عز وجل علينا ان جعل اعمالنا واقوالنا هي احياء للدين وهي مهمة عظيمة تقتضي الحكمة في الرأي والخطاب , فهناك امور حساسة جدا في التعاطي معها تقتضي مرجعية مركز القرار, وهي مما يتعلق بأحداث كبرى او فتنن تحمل في طياتها اختلافات أو دخن وحمالة أوجه , لذلك كان ينبغي ان يصدر الموقف عن انعام نظر ومسؤولية, لتحديد الرأي السياسي لتبني موقف حكيم يجمع بين المبدئية ووحدة الصف وتحقيق الاهداف, فمثلا : لما افتتن الناس بعبد الناصر ولما كان وراءه من تضليل و خيانات ومؤامرات تتستر بشخصه  كان الموقف هو الكشف رغم ما تطلب من تضحيات عظيمة , واما الموقف من ضم العراق للكويت ايام حكم صدام كانت الحكمة تقتضي الدعوة لوحدة بلاد المسلمين وضمها لبعضها والغاء سايكس بيكو, وسلطت الاضواء على حرمة المشاركة في التحالف مع امريكا لضرب العراق حيث ان القضية كانت صناعة شرق اوسط جديد جمعت لذلك امريكا حلفا دوليا , فاكنت الحكمة تقتضي دعوة جيوش المسلمين للتصدي لها وليس البحث في شخص صدام حسين وعمالته . وظلت الحكمة في الخطاب ان يظل التركيز على مخاطبة القوى والجيوش لحل قضية فلسطين وأخواتها من بلاد المسلمين المحتلة عسكريا ودعوتها للانحياز لصف الامة في ثورتها على الحكام , وكانت الحكمة أن نكتفي برسم الخط المستقيم الواضح وبالأدلة  المستفيضة في موقفنا من اعلان الخلافة المزعوم من قبل تنظيم الدولة . ومن هذا القبيل كانت الحكمة في الموقف من الانقلاب الفاشل في تركيا عدم تناول عمالة حزب اردوغان حيث ان موقفنا هو سابق وواضح في هذا الصدد , بل الحكمة تقتضي ان تسليط الاضواء على موقف المسلمين  ورفضهم للعلمانية  وهذا ما يصب في غاية استئناف الحياة الاسلامية فكان الراي واضحا في  هذا الصدد .
    6-   وهناك فرق كبير بين ان يكون المسلم مفتيا يعطي الرأي الشرعي في المسألة وبين ان يحمل المسلمين على تطبيق الحكم الشرعي بعد بيانه, وهو ما يسمى بالحمل السياسي للإسلام , وهو مفهوم إحياء الدين , وهنا تظهر الحكمة في الخطاب وفي هذا الصدد نذكر موقف سيدنا علي عندما سأله رجل ثائر الرأس في عينية ارادة القتل  وهو يسال هل للقاتل من توبه فلسان حاله انه يطلب التشجيع والاعانة  بالفتوى فأجابه سيدنا على ( ليس للقاتل من توبة) فهذا هو حمل سياسي يتجلى فيه الحكمة في الموقف , وهو منع القاتل من المنكر ولا يكون الامر بالإفتاء , فإعطاء الفتوى ها هنا مجانب للحكمة ونرى في موقف سيدنا عمر, عندما اتته المرأة تشكوه زوجها عن قتادة قال: جاءت امرأة إلى عمر، فقالت: زوجي يقوم الليل، ويصوم النهار. قال: « أفتأمريني أن أمنعه قيام الليل وصيام النهار؟» فانطلقت، ثم عاودته بعد ذلك، فقالت له: مثل ذلك ورد عليها مثل قوله الأول، فقال له كعب بن سور يا أمير المؤمنين: إن لها حقا. قال: «وما حقها؟» قال: أحل الله له أربعا فاجعل لها واحدة من الأربع لها في كل أربع ليال ليلة، وفي أربعة أيام يوما قال: فدعا عمر زوجها، وأمره أن يبيت معها من كل أربع ليال ليلة، ويفطر من كل أربعة أيام يوما). وهكذا ونضرب مثالين على ضرورة الاحاطة المعلوماتية في اتخاذ الموقف الحكيم فعندما تناهت معلومات للنبي عن محاولة تحريضية من المنافقين في الجيش في غزوة بني المصطلق فامر رسول الله بالإسراع في العودة وسار سيرا متواصلا اتعب الجيش حتى يسقط في يدي المتآمرين . وهناك مثال في القران عن الرجل الصالح الذي علم سيدنا موسى حيث اتضحت الحكمة في وضع الامور مواضعا عن الاحاطة بحيثيات كل حادثة . وتقتضي الحكمة مراعاة المقام في الخطاب فيخاطب العامي على قدر فهمه والعالم بحسب سعة علمه وينبغي التنبه ومراعاة المقام فلكل مقامه قال - صلى الله عليه وسلم -: " لا تمنعوا الحكمة أهلها فتظلموهم ولا تضعوها في غير أهلها، فتظلموها " ويقول عليه الصلاة والسلام في هذا المعنى: " لا تعلقوا الدر في أعناق الخنازير " وكما قيل : (لكل مقام مقال ، وليس كل ما يعلم يقال) فالحكمة تقتضي بحسب الحال الحزم تارة واللين تارة اخرى وتقتضي الحسم تارة والروية تارة اخرى وتقتضي السرعة تارة والبطء تارة اخرى والشدة والقسوة تارة وتارة أخرى اللين فلكل موضعه وحكمته .
     7-  اننا وبحمد الله على خير عظيم فقد وضحت لدينا الرؤية في الحزب وقد اشتملت ثقافتنا على مجامع الحكمة  فكانت تربة خصبة تنتج الحكمة في القول والرشد في المواقف ويظهر ذلك جليا في تبنينا لطريقة الاسلام في الدرس فتعلمنا طريقة التلقي الفكري ومراتب التفكير سطحيه وعميقه ومستنيره , وكانت ثقافتنا تؤسس شخصية حامل الدعوة على عقلية المفكر والسياسي والفقيه وكان من الهدى والحكمة أن ميزنا الطريقة العقلية عن العلمية والاهتداء لتعريف العقل ما شكل مفصلا تاريخيا. وكان مما احتوته ثقافتنا من ادوات الحكمة هو الوعي السياسي وفهم الفرق العميق بين الطريقة والاسلوب والوسيلة وحل معضلات التداخل فيما بينها وكان تاج الحكمة في الموقف ان تجسدت هذه الافكار في حزب مبدئي سياسي فكان هذا الموقف هو اولى خطوات التحول في المسلمين من حال الانحطاط وسلوك طريق النهضة , وكان من معاني هذه الحكمة هي الثقة بقرارات الامير ومن له الصلاحية , وهذا يتضمن معنى قاطعا في ان عناصر الحكمة تجتمع في مركز القرار حتما لا سيما في الامور المفصلية والحساسة والتي  يجب ان يكون فيها الراي واضحا والموقف صادقا .
 8- وقد يظن البعض ان الحكمة تعني المداراة والمجاملة والمواربة في الموقف ولئن صدق الكلام في مدارات السفهاء من ضعاف الناس فانه لا ينطبق على علية القوم ولا مع الانظمة بل الحكمة تعني القوة  والصراحة والجرأة , والصبر والتحدي , ولقد ظل هذا ديدن دعوتنا حتى اشتهر عن الحزب جرأته مع الظالمين , وانتصر في اظهار مواقفه في كثير من القضايا ولا يزال وعلى رأسها اجماع معتبر يعول عليه في الامة على مطلب الخلافة , 

      وخلاصة القول : ان الحكمة ينبغي ان تكون خير مما يتحلى به حامل الدعوة بما انبرى له من مهمة عظيمة فهو القائد التقي النقي ذو الحكمة الرائد الذي لا يكذب اهله , فلا تفارقه الحكمة حتى يصل الى بر الامان , فيورد الابل مواردها, ويعلم متى يخاطب الفكر وقت المشاعر و يحرك المشاعر وهو يخاطب  الفكر, وينتبه حامل الدعوة على ان الحكمة  انه لا يغرد خارج سربه, ويلتحم دوما مع سريته , ولا يلتفت ببصره يمنة ويسرة بل يحدق بقائده , كي يحسن الطاعة الواعية. وان الحكمة لا تأتي بالعاطفة بل انها ترديها فتقضي عليها , وهي بحاجة للأناة والروية , حتى تميز الفتوى عن العمل السياسي , وهي ليست مجر القاء الكلام مبعثرا , بل هي مواقف منظومة تصب في بناء الراي العام المنبثق عن وعي عام , في المسلمين لإعادة الخلافة والحكم بما أنزل الله من جديد في هذا الوجود. يقول الله عو وجل : { يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ } [البقرة : 269] .  17\10\2016م