الجمعة، 22 نوفمبر 2013

نظرة وتذكرة للحظات العيش الباقية
       إننا ندرك عن فكر مستنير، وعن ايمان ويقين جازم ، بأن الحياة الدنيا هي دار بلاء وتمحيص وابتلاء ، وإننا حين نقرؤها تقرع الاسماع وتزلزل الكيان ، وتخلع القلوب وترتعد لها الفارئص : الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) سورة الملك ، قال قتادة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله تعالى أذل بني آدم بالموت ، وجعل الدنيا دار حياة ثم دار موت ، وجعل الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء " . وعن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لولا ثلاث ما طأطأ ابن آدم رأسه : الفقر والمرض والموت ، وإنه مع ذلك لوثاب " فلعلنا ننتبه لتقديم الموت على الحياة في الاية ، حيث انها في صدر الاية كي تستقر في صدورنا ، واعماق قلوبنا ، فلا يبقى مكان فيها للدنيا العابرة الفانية فكانت الحياة الدنيا عقب الموت في سياق الاية القاطع، لتظل الاخرة الباقية بعد الموت في تنبهنا بل ومركز تنبهنا ، (( والآخرة خير وأبقى)) فهي الحق والحقيقة والمصير المحتوم بعد الاجل المحتوم ، يقول عز وجل (( كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام )) ويقول (( اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ  ( 20 ) الحديد ، وفرق كبير بين ما قبل الموت وبين ما بعده ، فيترتب على ما قبل الموت ما بعده وهو أيّنا احسن عملا ، ولقد – والله- حذّرنا الله وأنذرنا وذكّرنا حيث قال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)  وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ (10)  وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11) المنافقون  ، ولاجل هذا كان الابتلاء ليتبين أينا أحسن عملا ، وعليه تكون النظرة للعيش بكافة تفصيلاته وتعقيداته وبطوله رغم قصره قياسا مع أيام الله  فأعمار امة محمد صلى الله عليه وسلم هي بعض يوم من ايام الله ، بل هو بعض قليل ونزر يسير (  أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)  وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ (47)  الحج ، واننا – والله - ندرك ذلك جيدا ونؤمن بالبعث والنشور والحساب وندرك عن ايمان بأن الحساب سيكون على مثاقيل الذر، وحبة الخردل ، وندرك عن ايمان بان الحساب لن يغادر صغيرة ولا كبيرة ، فلقد – والله- أحصاه الله ونسوه ولقد احصى كل شيء عددا ( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ (30 ) ال عمران .. وان المقصد والثمرة من الايمان العمل ، واستثمار الوقت صنو ذلك بل ولب لبابه ، وان الكيس من استثمر وقته وحسن عمله ولا يكتفي بل يستدين من غيره وقتا ان استطاع ، ليزداد من الاعمال ما يقربه لربه ، وييسر عليه حسابه فيرتاح من بلاء الدنيا وينجو برحمة ربه ، فيكون قد احسن اغتنام الوقت و العمل فيكون احسن عملا فيفوزبإذن الله فوزا عظيما..
       وان التنبه من الفطنة،وان البلاء في الغفلة ، والتنبه يورث التذكرة ، والتذكرة تنتج الاسراع والاجتهاد والتفاني فرارا الى الله  (( فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (50)) الذاريات ، وتقتضي عدم التقصير في جنب الله ، فالله عز وجل قد انعم علينا بالعقل والقلب ان احسنا جعلناهما يقظين متذكرين ، ولقد جعل الله لنا عبرا لا يزال فيها مُعْتًبَرٌ لقوم يذّكرون ، فجعل الله الموت ومنه موت الاحبة والاقربين آية للغافلين ليتذكروا ... فيستدركوا ما فاتهم ، ويقبلوا مسرعين حين يؤمرون ، ولقد – والله - وجدت جرساً قويا يقرع آذاننا فيهز قلوبنا وأركاننا ، ذالك الجرس هو سؤال لا بد ان نستحضره عندما يحين علينا كل واجب ، بل وفي كل لحظة نعيشها من حياتنا ، ألا وهو: لو ان من ماتوا لو كان معهم مجال لفعل هذا الواجب أو القربة ، هل يفعلوه وقد علموا أنه لازهد في جنب الله؟ ولكن فاتهم بموتهم فهل فاتني ما فاتهم ؟ هل انقطع عملي كما انقطع عملهم ؟ اليوم استطيع ان اقوم بالعمل مختاراً بأقل طاقة او بأكبر طاقة ، ولكن في الغد القريب وما اقربه !! لن استطيع ذلك البتّة مجبرا ومكرها ..!!! فيا ويح من فاتته التذكرة ويا لخسارة من ترك تلك الاجوبة !!
          ولقد وعظنا و ذكرنا نبينا الاكرم محمد صلى الله عليه وسلم ، بالاغتنام في كل ما نستطيع بكل ما نستطيع ، وقد عدً لنا جميع احوالنا بالتفصيل ، بتوكيد الحريص المحب ، فمن حديث ابن عباس  مرفوعا أخرجه الحاكم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل وهو يعظه اغتنم خمسا قبل خمس شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك)) أخرجه ابن المبارك في الزهد بسند صحيح، وعن  عبد الله بن عمررضي الله عنهما : ( قال أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ، وكان ابن عمر يقول إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك )) وعن ابن عباس ، رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ " . نعم انه الاغتنام و الغنيمة والفضل والدرجات أو الغبن والخسارة والمضيعة والعياذ بالله .
       لقد جعل الاسلام الذكرى والتذكرة منفعة للمؤمنين ، وخير زاد يتهاداه المحبون ، حيث قال : ( وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) سورة الذاريات ويقول عز وجل (  فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى (9)  سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11)  الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12)  ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13.) سورة الأعلى . وان مما يجب ان يلاحق المرء بل ويرافقه ويلتصق به على الدوام ، هي أسئلة فلنسميها أسئلة التذكرة : كم بقي من عمري قبل موتي ؟ وكم بقي من صحتي  ؟ وكم بقي من غناي ؟ وكم بقي من شبابي ؟ وكم بقي من فراغي قبل شغلي؟وهل في الغد بعد الموت من استدراك لما قد فاتني ؟ نعم هل يبقى لي وقت اقول فيه مقالة الحق لا اخشى في الله لومة لائم  ؟ (  الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً (39) الاحزاب وهل بقي وقت  انفق في سبيل الله ولا اخشى من ذي العرش اقلالا ؟ ( وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ (10)  وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11) المنافقون(وهل بقي من وقت في الغد اصلي فيه صلاة الاوابين ؟ ( وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114 هود ام بقي من وقت اتصل فيه بالناس احمل لهم هم الدين ؟ قال - صلى الله عليه وسلملعلي - رضي الله عنه - : " لأن يهدي الله على يدك رجلا خير لك مما طلعت عليه الشمس " وهل بقي من وقت احضر فيه للحلقة وأعيد لها اعتبارها باعتبارها زادا لحمل الدين رسالة للعالمين؟ وهل بقي من وقت اقوم فيه من الليل ثلثه او نصفه أو ساعة منه ؟ وهل بقي من وقت اتابع فيه مواطن الضعف في نفسي وفي اهلي وامتى فاستبدل القوة بالضعف والتمام بالنقص ؟ وهل بقي وقت لنعطي كل ذي حق حقه ؟ في الاهل والولد والدعوة والدين ؟ فلو كنت ميتا لا استطيع واليوم استطيع (( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون))
          وان مما يلفت النظر ويشد النفس أن طائفة من النصوص الشرعية قد جعلت الاسراع والمسابقة والتنافس والتقديم للآخرة على أمر الدنيا فيقول عز وجل : (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ )) ال عمران . ويقول : (( سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ( الحديد ( ويقول : (( كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين ( 18 ) وما أدراك ما عليون ( 19 ) كتاب مرقوم ( 20 ) يشهده المقربون ( 21 ) إن الأبرار لفي نعيم ( 22 ) على الأرائك ينظرون ( 23 ) تعرف في وجوههم نضرة النعيم ( 24 ) يسقون من رحيق مختوم ( 25 ) ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ( 26 )) المطففين ،وفي المقابل قد حذر الاسلام من الركون للدنيا او التنافس عليها فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم : (( فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتلهيكم كما ألهتهم )) ويقول : " الدنيا دار من لا دار له ، ولها يجمع من لا عقل له " . رواه أحمد ، وإن جماع الامر لا يكون الا بدوام التذكر والانشداد لامر الاخرة كي نحافظ على الاسراع والمسابقة والتنافس فيها ، ولكون الانسان ينبهر بالماديات وتشده الحياة بزخرفها الزائل كان لا بد له من أن يعالج نفسه ويتداركها حتى لا يدركه الغرق ،((   حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) )) المؤمنون ، وان تعويد النفس على ترديد تلك الاسئلة التي تقرع النفس فتلومها وتحركها نحو الفضائل ومعالي الامور لهو امر ضروري لذوي البصائر والقلوب اليقضة فتتحصن عن الغفلة  وبلائها باليقظة وخيراتها .
        ايها الاخوة :
        انها - والله- موعظة وأي موعظة وتذكرة وأي تذكرة !! أو ليس  منا ومن بيننا من هم والزمان في إقبال ؟؟ !! فليقبلوا ويستغلوا ويعتبروا ممن هم والزمان في إدبار. وان منا ومن بيننا من هم والزمان في إدبار !!!  فليستغلوا ما بقي استغلالا لعله يجبر ما فاتهم ، ويؤسس لمعالم تظل في الاجر باقية ، اذا ما ذهبوا عن الفانية للباقية  .
 اللهم أحينا أنقياء أتقياء بك أقوياء ، واجعلنا من اليقظين الواعين المتذكرين ، ولا تجعلنا من الغافلين ، واجعلنا اللهم من المسارعين وبالخيرات مسابقين وفي رضوانك متنافسين ، أحينا اللهم سعداء وفي ظل الخلافة أعزاء وخذ بأيدينا و أميرنا العطاء عطاء خذ بأيدينا جميعا الى معارج النصروالتمكين لهذا الدين القويم ، ولا تمتنا اللهم يا رجاءنا الا أعزة منتصرين شهداء، اللهم انك أكرم مسئول ونعم مجيب الدعاء والحمد لله رب العالمين.

12 محرم 1435ه الموافق 15/12/2013م
سعيد الاسعد – فلسطين



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق