الأحد، 10 أغسطس 2014

بسم الله الرحمن الرحيم ( مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) الذاريات

      لقد أنعم الله علينا بنعم ظاهرة وباطنة، منها ما علمناها ومنها ما لم نعلم ، فالحمد لله العلي المتفضل  الكبير المتعال ، وإن من أعظم نعمه علينا أن بين لنا ما لنا وما علينا ، وتفضل من فوق ذلك علينا بالرجاء وبالتوبة والمغفرة والرحمة ، وأنذرنا عذابه وغضبه وزفرات نيرانه كي نكون على اتزان لا نحيد فكان فضل الله علينا عظيما وعطاؤه جزيلا .
      وكان مما علمنا هو أن عيش الإنسان ضمن دائرتين الأولى: تسيطر عليه ولا يد له فيها ، والثانية : يتصرف فيها مختارا طائعا او عاصيا . فالأولى : لا يحاسب عليها ولا قبل له في ردها فقد أتي لهذه الحياة وسيذهب عنها وسيعيده الله تارة أخرى، ( مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ) (55) (طه) ، وقد جعل للإنسان عينين ولسانا وشفتين وجعل له رزقه ، واضافة الى ذلك جملة من الأفعال لا طاقة للإنسان فيها تقع عليه فوق إرادته ولا راد لها فهي قضاء من الله فيخضع لها الانسان ويصبر على أذاها وفواجعها ، ويحتسب عند الله  الأجر على ذلك ، وأما الدائرة الاخرى فقد قضى الله ان تكون تحت طاقة الانسان وبقدرته وهي محل الابتلاء والتمحيص والتكليف وانما عليها الحساب والجزاء. ( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) الانسان .
       وان مما قضاه الله ولا يد للإنسان فيه الزرق فهو من الله وحده يقول الله عز وجل : "  إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين  ( 58 ) الذاريات  ويقول :  ( وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) هود )    ولقد كانت نسبة الرزق لله وحده نسبة حقيقية ولا دخل لمخلوق فيها فلا كثرة السعي تزيده ولا قلة السعي تنقص منه فهو قضاء من الله وحده ، والشواهد على ذلك كثيره مبثوثة في كتاب الله عز وجل وفي وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وعليها شواهد في الواقع تكاد لا تحصى ، واننا في هذا المقام ننظر في عبرة عظيمة لا بد لنا ان نعتبر بها وان نعيش ظلا لها وان نأخذ بها ونضعها حلقة لا نتركها ونجعلها في قلوبنا حتى لا ننساها وفي عقولنا نسير بهداها ، وهذه العبرة تتمثل في مقارنة عجيبة في سعي الانسان في هذه الحياة الدنيا فالكل يتجه مجبرا نحو الحاقة والحقيقة نحو الدار الاخرة بشكل جبري متسارع، فالكون الفسيح السابح في ملكوت الله يسير يسبح لله وحده لا ينشغل بغير هذا نحو الاخرة أي الى أجل معلوم عند الله وحده ، وكل دابة في السماء وفي الارض تسير مقهورة نحو الاخرة وقد تكفل الله في هذه الدنيا للكل برزقه ، وأمر الانسان بالسعي لطلبه ولكن الحكمة والدقة تكمن في أن التنافس والسعي والمسارعة والمسابقة انما يكون للآخرة ، فكلما زاد سعيك لها وأقبلت عليها ارتفعت منزلتك، وأما الدنيا وزخرفها فكلما زاد سعيك لها فإنه لن يزيدك من نعيمها ولا من زخرفها الا ما يزيدك وهمك وسواد في قلبك إن كان ذلك على حسب فرض ربك .  ففي الحديث الصحيح الذي يرويه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ ! تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلَأْ صَدْرَكَ غِنًى ، وَأَسُدَّ فَقْرَكَ ، وَإِلاَّ تَفْعَلْ مَلَأْتُ يَدَيْكَ شُغْلاً ، وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ ) رواه الترمذي ، فاعتماد القلب وتعلقه انما يكون على الله الرازق عند طلب الرزق ولا يجوز الاعتماد على كد اليد ولا كثرة السعي ولا طول الوقت في طلب الرزق على حساب الاخرة مما يورث المرء غضب الرب وبؤس العيش وخسران الدارين ,, أعاذنا الله من ذلك وروى الطبراني في الصغير ، عن أنس مرفوعا قال : " من أصبح حزينا على الدنيا أصبح ساخطا على ربه تعالى ، ومن أصبح يشكو مصيبة نزلت به فإنما يشكو الله تعالى ، ومن تضعضع لغني لينال مما في يديه أسخط الله تعالى ، ومن أعطي القرآن فدخل النار فأبعده الله تعالى " . وعن عمرو بن عوف - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فو الله لا الفقر أخشى عليكم ، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم ، فتنافسوها كما تنافسوها ، وتهلككم كما أهلكتهم " متفق عليه ..
        وبالمقابل فإن سعي المرء في طلب الدار الاخرة ابتغاء رضوان الله وطمعا بجناته فإن ذلك هو الخير والفضل والرشاد وقد جعل الله في ذلك التنافس وأعد الدرجات والمراتب والمنازل وجعل ذلك عن ايمان مرتبط بالقلب ليأخذ من المرء كل تفكيره وكل سعيه و جهده واجتهاده .. " تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ " القصص/83. قال الإمامُ عليٌّ رضيَ الله عنه: اليومَ العملُ وغدًا الحسابُ " ويقول عز من قائل : ( إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) المطففين ، ويقول عز من قائل : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) النجم  وقد روى الإمام أحمد عن أم المؤمنين عائشة [ رضي الله عنها ] قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الدنيا دار من لا دار له ، ومال من لا مال له ، ولها يجمع من لا عقل له " وفي الدعاء المأثور : " اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ، ولا مبلغ علمنا " . ويقول عز وجل (مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا ﴿١٨﴾ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَـٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا ﴿١٩﴾ كُلًّا نُّمِدُّ هَـٰؤُلَاءِ وَهَـٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴿٢٠﴾ انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا ﴿٢١﴾ الاسراء قال الإمام أحمد : حدثنا حسين ، حدثنا دويد ، عن أبي إسحاق ، عن زرعة ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الدنيا دار من لا دار له ، ومال من لا مال له ، ولها يجمع من لا عقل له " . وان تصور المرء المؤمن للحياة الدنيا انما يكون بحجمها الحقيقي فنعيمها زائل وكل من عليها فان ... وان السعي الحقيقي المثمر هو سعي الاخرة فهي الحياة الحقيقية وما فيها من نعيم فهو مقيم ، يقول عز وجل : (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) العنكبوت .
وعليه فإننا لا بد ان نعمل بمقتضى الحقيقة المبنية على الايمان وهي أن السعي لحطام الدنيا لن يزيد من حطامها بالكثرة ولن يقل بالقلة وعلى العكس تماما السعي للدار الاخرة فإن الله ينظر لها بمثاقيل الذر خيرا كانت او شرا وما على المرء المؤمن الا ان يكد ويتعب ويجتهد لما هو باق وأن يعطي الدنيا حقها فيما افترض الله ولا يزيد فهي دار فتنة وابتلاء . يقول الله عز  جل : ( يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) ) الزلزلة .
  وفوق هذا فإن المرء المسلم لا يأمن عواقب الامور ولا يعلم خواتيم أعماله فلا بد له والحالة هذه من أن يظل أوابا منيبا لربه طائعا مسرعا في طلب رضوانه يرجو رحمة ربه ويخشى عذابه وان العبد المؤمن ليعيش بين جاذبتين الرجاء والخوف ففوق الفرائض واجتناب المحرمات يتقرب لله عز وجل بالنوافل واضافة لذلك فإنه لا بد له من ان يظل حاضرا ومستحضرا رجاء رحمة ربه ويخشى عذابه فبالرجاء يبقى معلقا بحبال ربه وبالخوف يجعل بينه وبين ما يغضب الله بعد المشرقين ، فيبقى ملتزما متزنا على تقوى من الله ، محققا لولاية ربه بإذنه تعالى ، وإن المحبين الصادقين هم في هذا المقام في مقام المحبة هم في مقام موزون بين الرجاء والخوف.
        فرجاؤهم معلق برحمة الله تعالى والذين لا يخافون إلا الله هم أشد الناس خوفًا من الله تعالى، وقد جمع الله تعالى أركان هذا المقام الإيماني الرفيع في وصفه للملائكة المقربين والأنبياء المرسلين والصالحين العابدين فقال جل جلاله :{أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً }الإسراء57  ولكي يبقى المسلم مطمئناً ومتيقظاً ، يحدوه الأمل والرجاء في رحمة الله ومغفرته وهو كذلك يخشى ويخاف من الله سبحانه قال الامام ابن القيم: رحمه الله ( من استقر في قلبه ذكر الدار الآخرة وجزاءها ، وذكر المعصية والتوعد عليها وعدم الوثوق بإتيانه بالتوبة النصوح هاج في قلبه من الخوف مالا يملكه ولا يفارقه حتى ينجو ).
   فيا حملة الدعوة ايها الراغبون في الله و يا من عقدتكم الصفقة معه طمعا في جنته وخوفا من زفرات نيرانه وفوق هذا وكله ابتغاء رضوانه : اعلموا أن الخوف والرجاء كجناحي الطائر كما ذكر أهل العلم متعاضدان مقترنان ، المسلم يرجوا ما عند الله ولكن يخافه ويخشاه . فلا تميلوا كل الميل لجهة على حساب اخرى ... فالرجاء وحده قد يورث الامل و يضعف الهمم العالية الوثابة بالحق فتسترخي وقد تتقاعص واما الخوف وحده فقد يقود صاحبه الى المغالاة وقد يضع الامور في غير مواضعها فالخير فيمهما معا والزاد وخير الزاد وهو التقوى لا يقوم ولا يكون الا بهما معا .
قال تعالى { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ }الأنبياء90 ومن الأسباب الباعثة على الخوف من الله والرجاء له سبحانه التفكر في الخاتمة والحساب فيما أعد الله سبحانه لأهل طاعته من النعيم المقيم الأبدي وما أعد الله لأهل معصيته إن هو عذبهم من العذاب الذي لا يطيقه بشر.
فاللهم اشهد بأننا نرجو رحمتك ونخشى عذابك قولا وعملا بقلوبنا وعقولنا وجوارحنا فاصنعنا لنفسك واستعملنا ولا تستبدلنا فإنا ضعفاء الا بك فارحم ضعفنا ودبر لنا فإنا لا نحسن التدبير وانا نستودعك قلوبنا وعقولنا وأعمالنا وخواتيمها فاجعلنا على ما يرضيك وعلى حملة دعوة الاسلام والتزام امرك قائمين وقاعدين وقانتين وأحينا سعدا واقبضنا اليك شهداء لا فاتنين ولا مفتونين يا ودود يا ودود يا ودود يا ذا العرش المجيد بك نستغيث ولك نلوذ ونؤوب اليك الخير كله . والحمد لله رب العالمين.
16/3/2014م


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق