الأحد، 21 فبراير 2010

أضواء على تربة رجال الدولة

                                                                 أضواء على تربة رجال الدولة

ان البحث في معرفة رجال الدولة صفاتهم, وتربتهم ,والمحافظة على تكثير سوادهم, لهي أهم بداية للجدية في الاطلاع بالمسئولية عن خير أمة أخرجت للناس, وهي جدية في البحث عن من يحمل أعظم رسالة نزلت على الأرض من السماء , ومعرفة الأهلية للقيام بالحق وتحقيق قضية الإسلام. وأي مسيرة مهما قلت أو عظم شأنها لهي بالقائد الرائد الذي لا يكذب أهله, والذي لا يتنكب رغم انفضاض الناس من حوله,كيف لا وهو جبل شامخ راسخ يؤوب إليه الناس كلما احتاجوا إلى ركن شديد يؤون إليه. فكان حرياً وواجباً حتمياً على السائرين في خط الريادةة وتحمل مسئولية الغير أن يتفطنوا إلى أنهم على خطر عظيم, وأنه لا بد لهم من صفات ومواصفات نادرة يتحلون بها وينبتون من بذرتها ولا يشربون إلا من مواردها ولا يتنفسون إلا من هوائها, ولكون الحاجة إلى مثل هؤلاء تتجدد مع الأجيال, وكثرتهم هي مبعث للطمأنينة والأمان, وللمحافظة على حمل الرسالة وإحسان حملها وتطبيقها وإظهارها على الدين كله, فكان لا بد من البحث عن السبيل لإيجادها والمحافظة عليها-أي التربة-و لتكثير سواد رجال الدولة في الأمة عبر أجيالها .وكان لابد من الإحاطة ببعض الضرورات وديمومتها في كل العصور وأهمها معرفة خصائصها.



إن خصائص الدولة وأهدافها ومكانتها بين الدول تحتمها مرتبتها في المسئولية وهي التي تحدد طبيعة رجالها فدولة صغيرة عميلة رجالها-أي المحسوبين على الدولة- يتحلون بصفات رذيلة كلها صغار وضعف وانهزام, فالتطاول على الناس وكسر هامتهم , وعادة أهانتهم وسرقة أموالهم وقطع طرقاتهم وانتهاك حرماتهم هي مواصفات لمثل هكذا رجال لهذه الدول . وعلى النقيض من ذلك دولة مبدئية صاحبة رسالة عالمية هي مشروع نهضة وخير عالمي تقتضي أن يكون حال رجالها بمواصفات عالية القوي عندهم هو الضعيف حتى يؤخذ الحق منه والضعيف هو القوي حتى يؤخذ الحق له فالحق هو المتبع, ولو كان خصمهم ابن الأكرمين أخذ منه. فلا شفاعة في الحق و لا ولين في نصرة الضعيف حتى يقوى بالحق . ورجل الدولة هذا ليست صفاته خلقية فحسب بل هي خلقية ومكتسبة معاً فقوة الشخصية هي بالجرأة الفطرية والشجاعة والمثابرة وقوة الإرادة والصلابة إلى جانب الفكر المستنير وخدمة الغير والوعي السياسي مع إلانة الجانب واستمداد العمق والسند من الأمة, والإقدام على خدمتها بكل ود و تواضع لان التواضع هو أرفع مرتبة عندهم ,و المسئولية هي أمانة ومشقة وهم ومهمة .... وهي تقتضي قلق وسهر بالليل ومشغلة بالنهار وهي قوة إرادة وسرعة بديهية و خفة التفاته و انتباهه وهي رجاحة عقل وفطنة وهي حزم وحسم في وقته ومحله وشدة ولين بحسب حالته وهي تجمع بين سوء الظن وحسنه وإذا نامت العين برهة ظل القلب يقظاً والفكر نشطاً متقدا ومع كل هذا فالقوة بالله والاستعانة به وحده والإخلاص الخالص له ورجاء القبول والنصر منه لا شريك له .
وبالمقابل فإن من ا شد المخاطر والمهالك أن تغلب المشاعر العقل فالعقل حكم وقائد وهو أعلى من المشاعر مكانة وأجدر قيادة وهو محل الفهم والدراية والتمحيص, و به الحساب والإحاطة بالعواقب واستيعاب النوازل وبه السبيل إلى الخروج والنجاة. والمشاعر تابع للإشباع وهي أحاسيس تتبع الأفعال والأقوال فأنى للتابع أن يتبع وأنى للضعيف أن يستقوى به . ‏ ‏ ‏ ‏عن ‏ ‏أبي نضرة ‏ ‏عن ‏ ‏أبي سعيد ألخدري قال ‏(‏صلى بنا رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏يوما صلاة العصر بنهار ثم قام خطيبا فلم يدع شيئا يكون إلى قيام الساعة إلا أخبرنا به حفظه من حفظه ونسيه من نسيه وكان فيما قال ‏ ‏إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون ألا فاتقوا الدنيا واتقوا النساء وكان فيما قال ألا لا يمنعن رجلا هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه قال فبكى ‏ ‏أبو سعيد ‏ ‏فقال قد والله رأينا أشياء فهبنا فكان فيما قال ألا إنه ينصب لكل غادر ‏ ‏لواء ‏ ‏يوم القيامة بقدر غدره ولا غدر أعظم من غدره إمام عامة يركز ‏ ‏لواؤه ‏ ‏عند ‏ ‏إسته ‏ ‏فكان فيما حفظنا يومئذ ألا إن بني ‏ ‏آدم ‏ ‏خلقوا على ‏ ‏طبقات ‏ ‏شتى فمنهم من يولد مؤمنا ‏ ‏ويحيا مؤمنا ويموت مؤمنا ومنهم من يولد كافرا ‏ ‏ويحيا كافرا ويموت كافرا ومنهم من يولد مؤمنا ‏ ‏ويحيا مؤمنا ويموت كافرا ومنهم من يولد كافرا ‏ ‏ويحيا كافرا ويموت مؤمنا ألا وإن منهم البطيء الغضب سريع ‏ ‏الفيء ‏ ‏ومنهم سريع الغضب سريع ‏ ‏الفيء ‏ ‏فتلك بتلك ألا وإن منهم سريع الغضب بطيء ‏ ‏الفيء ‏ ‏ألا وخيرهم بطيء الغضب سريع ‏ ‏الفيء ‏ ‏ألا وشرهم سريع الغضب بطيء ‏ ‏الفيء ‏ ‏ألا وإن منهم حسن القضاء حسن الطلب ومنهم سيئ القضاء حسن الطلب ومنهم حسن القضاء سيئ الطلب فتلك بتلك ألا وإن منهم السيئ القضاء السيئ الطلب ألا وخيرهم الحسن القضاء الحسن الطلب ألا وشرهم سيئ القضاء سيئ الطلب ألا وإن الغضب جمرة في قلب ابن ‏ ‏آدم ‏ ‏أما رأيتم إلى حمرة عينيه وانتفاخ ‏ ‏أوداجه ‏ ‏فمن أحس بشيء من ذلك فليلصق بالأرض قال وجعلنا نلتفت إلى الشمس هل بقي منها شيء فقال رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏ألا إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه )‏ ‏‏
ان ضمان بقاء رجال الدولة يكون بقوة إيمانهم بنبئهم , وربط بقائهم بمدى تقدمه وارتفاع مكانته بين العالمين . وهذه طريق الإسلام المحددة المعالم في الظهور في دولة , والدولة برجالها تقود الأمة لإظهاره على الدين كله, والوصول إلى ذلك لا يتم إلا عبر قيام كتلة تكون بوتقة تصهر الرجال وتصنعهم رجال دولة أتقياء أنقياء أقوياء بربهم استجابة لقوله عز وجل " ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ولؤلئك هم المفلحون" إل عمران. والعيش في الكتلة عيش جد واجتهاد وارتقاء لا عيش أنتساب فحسب , لان بهذا ضمانة البقاء والاستغناء واستمرار للقوة فالكتلة هي الوسط الطبيعي الذي هو بمثابة الماء والهواء لرجل الدولة القائد السياسي المبدع وهي رحم الأمة الغنية بخصائص الخير الودود الولود برجال الدولة .
وعليه فإن الأسباب الحقيقية التي تضمن خصوبة التربة التي تصنع رجال الدولة لا بد أن تكون فيها الأمور التالية .
1- حزب سياسي مبدئي كضمانه وبوتقة تصهر الرجال الرجال يصنعهم بثقافته وحنكته وانضباطه وعمقه واستنارته وتفكيره الجماعي ووعيه السياسي, وإنباته لهم على المسئولية عن الغير والتصدر لأخذ القيادة والشجاعة والجرأة في الحق, والصبر والجلد على الدراسة, والإحاطة والمتابعة, وحشر الأنف بالضرورة في كل شاردة وواردة تهم من قريب أو بعيد ولها اتصال بمصير الإسلام وقضيته في العيش والظهور, وهذا الوسط لا يوجد على الإطلاق في الدنيا إلا في حزب كحزب الرسول صلى الله عليه وسلم ومن بعده على التحقيق وبالاستقراء حزب التحرير. وعليه فإن الشرع الحنيف أعتبر وجوب قيام كتلة في المسلمين واجب على الدوام في كافة الإعصار فهي مصنع الخصوبة في التربة لما لها من أهمية في إنشاء القادة السياسيين المبدعين سواء كانوا في الحكم أم لم يكونوا.
2- إن اعتبار مركز الوجود للفرد وسبب حياته وثمرة بقائه إنما يكون بحمله رسالته, ما يقتضي تمتعه بأهلية عالية تنشأ من نظرته للأمور والوقائع والإحداث الجارية من منطلق المسئولية عن الغير, مسئولية شهادة, وأمانة رسالة يؤديها. فلا بد للفرد أن تتكون في أعماقه المسئولية عن الرسالة والعيش من أجلها وبالتالي المسئولية عن الغير , وانه لا معنى للعيش إلا بها ولا سعادة إلا بها ما يقتضي دوام البحث عن مواطن المكنة وأسباب القوة كي تجتمع بكافة أشكالها مادية ومعنوية كي تسخر لخدمة الرسالة وتحقيق هدفها وقضيتها في الوجود . قال تعالى: (هو الذي أرسَلَ رسُولََه بالهُدَى ودينِ الحقِّ ليُظْهرَه على الدين كلِّه ).

إن من أعظم ما ابتلى بت المسلمون بعد غزو المبدأ الرأسمالي لديارهم وعقولهم النظرة الفردية الأنانية وعدم الانشغال بشؤون العامة والسلطان والمسئولية عن الغير, وما سياسة ربط معاش الناس بنظام الروتين والشغل الطويل إلا حلقة مكملة لسياسة إفقار البلاد لإشغال الناس بلقمة العيش التي لا يدنون منها إلا بكل مشقة ومرارة وأهانه. إن عيش المسلمين على هامش الحياة بل وعالة على العالم لهي ضالة عدوهم . والنفور من الاهتمام بالغير والبحث في مشاكل المسلمين بعامة والاهتمام بأمرهم وإثارة قضاياهم وتبني مصالحهم وكشف مكائد عدوهم ان النفور من ذلك لهي عادة سهر الكافر على إيجادها في المسلمين يقول صلى الله عليه وسلم ( أيما أهل عرضة بات فيهم أمري جائع فقد برئت منهم ذمة الله ) وقوله:( من سمع مسلماً ينادي ياللمسلمين ولم يجبه فليس بمسلم) " وقوله " من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم "
لذلك كان واجباً على من تفطن لهذا الأمر,من المسلمين عليه أن يوقظهم إلى هذه الحقيقية ببعث اهتمامهم بشئونهم وفي قضاياهم المحلية والدولية .
وان هذا الجهد الكريم لا يقوى عليه إلا من اضطلع بجهد الحزب وبهمته ومهمته وهذا يعني بالضرورة أن يهتم الجميع بالبحث والتقصي باستمرار في شؤون المسلمين ولفت نظرهم للحلول الشرعية وربطها بمركز القضايا وطريقة حلها, إلا ان ما يجب ان يتنبه إليه أهل هذه المهمة أن لا يقعوا في مغالطة خطيرة وهي أن مجرد انتمائهم لحزب يقوم بهذه المهمة يكفي بل على الواحد والفرد والجزء أن يديم النظر ويتابع الاهتمام في كل شأن من الشئون التي تهم المسلمين بل والعالم أجمع . لأن القضية هي إخصاب التربة لا إيجاد عينات فكل واحد لابد ان يكون رجل دولة وقائد سياسي بارع كي تتمتع الأمة بحشد كبير من رجال الدولة ليعيد لها سيرتها الأولى من جديد فلم يمنع وجود الصديق والفاروق في الحكم ان يكون عبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود وأبو أيوب الأنصاري يتمتعون بصفة رجل الدولة بل ان درجة الخصوبة كلما ارتفعت فانك تجد إعرابيا يتصدى للرد والمحاسبة وامرأة تصحح إمام المسلمين وفي هذا دلالة خير ويقظة وحراسة للإسلام ممن هم أهله.
إن كفاح المسلمين لتوليهم قيادة قضاياهم ورعاية شئونهم بل وشئون غيرهم كانت عادتهم وسجية نشأت مع نشوء عقيدتهم بين جوانحهم رغم ضعفهم وقلة حيلتهم " واذكر إذ أذنتم قليل مستضعفون تخافون ان يتخطفكم الناس ....." إلى أن مكنهم الله في المدينة وأصبحوا رجال حكم يباشرون شؤون الدولة وسياسة الناس في الحكم والسلطان ومنهم الكثيرون ممن ظلوا خارج صلاحيات الحكم و هم رجال للدولة لا بالمفهوم السيئ بل بمعنى أنهم يتنبهون على قضايا أمتهم ويحاسبون على التقصير ويلاحقون الثمار حتى تنضج, وحتى وهم في مكة كانوا يتطلعون إلى ما يدور حولهم بل في معترك العلاقات الدولية الكبرى ولا أدل على ذلك من أسباب نزول آيات الافتتاح من سورة الروم والتي سميت السورة بها لما للاطلاع على أحداثها السياسية من أهمية ما يلفت الأنظار إلى من هم الروم ولماذا سميت كل الآيات وكل السورة بسورة الروم ليظل المسلمون يقظون على العالم بقضاياه ويتدخلوا في شئونه لخيره إلى أن يظهر الدين والخير على الدين كله وفي الوجود بأجمعه . وفي رواية للديلمي عن أنس أيضا بلفظ:( المؤمن فطن حذر وقاف، متثبت لا يعجل، عالم ورع، والمنافق همزة لمزه حطمة لا يقف عند شبهة ولا عند محرم كحاطب ليل لا يبالي من أين كسب ولا فيما أنفق) ومثله في التاريخ للبخاري
أن التصدي والتفكير في شؤون المسلمين وقضاياهم وربطها بأحكام الإسلام فيه تبني لمصالحهم وكشف خطط ومكائد عدوهم كما إنها تنبه المسلمين على نقاط ضعفهم ليحصنوها ونقاط ضعف عدوهم فيخترقونها وهم يحذقون ويدركون بهذه الحال من أين تؤكل الكتف,وفي ذات الوقت أو قبل ذاك يحصنون أنفسهم وأمتهم من مكائد الطامعين والمتربصين .
إن سياسة الإسلام في فرض رعاية الجماعة وبناء الروح الجماعية ابتداء من عيش المسلمين في ظل دولة لايبوتون ليلتين بدون خليفة وإلا أثموا حتى يظلوا ينعموا بالخير ويحيطوا بمكامن القوة بكافة إشكالها مادية أو روحية أو معنوية فالعيش الجماعي وبالجو الإيماني في ظل الدولة ومن قبل هذا ومن بعده في أجواء الحزب فيه جماع القوة بل فيه استقصاء للوصول للذروة في استجماع أسبابها . وإن حمل الدعوة في جماعة ثقافة وصراعاً وكفاحاً و اتصالا ونقاشاً وأعمالاً فيه استقصاء واستجماع لمكامن القوة الروحية والمعنوية في الأمة لما يتيح لها الإجماع والاجتماع على رجال يحبونهم ويرضونهم رجالاً لقيادتهم وأهلاً لأن يكونوا رجال دولة كيف لا وهم الذين ينامون ويصحون على هم الإسلام وأمته عن رعاية واقتدار حتى يقودوا أمتهم والعالم أجمع إلى بر الأمان فحقاً هم الرجال الرجال الذين تتوق الأمة لإعطائهم صفقة يدها وثمرة قلبها, كيف لا وهم الذين اثبتوا جدارتهم وعلمهم ووعيهم وتضحياتهم, كيف لا وهم الذين ظلوا ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم مبدئيين لا يغيرون ولا يبدلون.مصداقا لقوله عز وجل )من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهد الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا),وقوله صلى الله عليه وسلم:( لاَ يَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ) رواه البخاري.فالي التشبث بهذا الفضل والخير ندعو أنفسنا والمسلمين لنعض عليه بالنواجذ حتى يأتي أمر الله. والحمد لله رب العالمين.

18/2/2010م

سعيد بن الأسعد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق