السبت، 14 مارس 2009

التكاليف الخاصّة بين العقليّة والنفسيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

التكاليف الخاصّة بين العقليّة والنفسيّة


لقد جعل الله التفاوت في العقول والطاقات بين الناس قَدَراً مقدورا، وقد أنعم على أناسٍ ببسْطةٍ في العلم والجسم، وفي الإحساس المُرهف والاستعداد الدائم بالهمم العالية والنَّفَس الطويل والصبر والجَلَد؛ ما يجعلهم محلَّ القيادة ومحلَّ الاختيار للمهامِّ الجِسام والخَطِرة، والتكاليف الخاصة. ونحن لسنا هنا بصدد البحث عن الأمور الفطريّة بقدر البحث عن الأمور المُكتسَبة، والتي من شأنها أن تُكثّر الخير في زمنٍ الحاجةُ إليه ألحّ، والتّعطش إليه أشدّ. فكيف تُرفع الهِمم وتُقوّى الاستعدادات، ونرقى بالإحساس إلى حدٍّ يزداد فيه المُستعِدّون والمسرعون والمتحفِّزون إلى قبول أشد التكاليف وأخطرها، غير آبهين ببطشٍ ولا بظَلَمة ولا بظُلمة، ولا ببُعد الشُّقّة أو المشقة، منشرحةً صدورُهم يُقبِلون إقبال من لا يعرف الإدبار، يسرعون لا يعرفون الإبطاء، ويعزمون لا يعرفون التردّد، يستمدّون كل ذلك من إحسان التوكل على الله.



وكل هذا يقتضي التفريق بين المطلوبات، والتفريق بين القدرات؛ فالمطلوبات، بمعنى المهامّ اثنتان: عامّةٌ وخاصة؛ فالتكليف العامّ يؤدَّى بأدنى القدرات، وهو خفيف على أعلى الطاقات ويؤدَّى بأدناها، وأما المهامّ والتكاليف الخاصة فلا تُؤدَّى إلا بأقوى الطاقات وأعلى الهِمم. فهي تؤدى بها وشاقّة على من هم دونها، إن لم تكن مستحيلة. فأداء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مطلوبة من كل مسلم، وهي مقدورة بشكل عامٍّ لكل مسلم على الإجمال، بينما فريضة الاجتهاد في الأحكام أو وضع أصول للفقه فهي لا يقدِر عليها إلا أولو الألباب والنُّهى وأهل العلوم والاستعدادات والبذل والاجتهاد؛ فهي خاصة ونادرة على التفصيل واقعاً محسوساً. فقدرة الناس على الفهم والحفظ متفاوتة حدَّ التناقض، والقدرة على الربط بين الواقع والمعلومات مختلفة، والإحساس مختلف، والصبر والسرّيّة والحركة وطول النَّفَس، والثقة والخوف والشجاعة والالتزام والتهاون، والتقيد والتفلّت والتصرف والانضباط، والوقوف على حدِّ المطلوب والاجتهاد فيه رغم التّوصيات أو بعدمها؛ كل هذه الأمور متفاوتة عند الناس حدَّ التناقض. ففرض تطبيق الإسلام كاملاً تطبيقاً انقلابيّاً شاملاً فرضٌ على جميع المسلمين، ولكنْ لا يتأتى لهم ذلك إلا من خلال رجل منهم يملك طاقة ذلك، وفيه القدرة والكفاية للقيام بذلك. فالمطلوب وإن كان واجباً على الجميع إلا أنه لا يُؤدَّى إلا بتكليف خاصٍّ ومهمة خاصّة يقبل بها خليفة المسلمين، من خلال عقد البيعة؛ وكذلك كل عمل يحتاج إلى اختصاص وخبرة وبسطة في العلم والجسم. محله التكليف الخاص لا العام.
والتكاليف الشرعية الخاصة والمهمات الخاصة، لا تخرج عن نوعين : منها ما هو متعلق بواحد على وجه الخصوص، ولا يؤدى إلا بواحد، ومنها ما هو من قبيل السّرّ الخطير والأمر الدقيق والخَطِر، وما هو من قبيل العقلية أو النفسية أو البسطة في العلم والجسم.
أولها: وهو ما كان من قبيل الإمارة في الحكم والحزب والسفر والحي والعمل والبيت؛ فهذه لا تُؤدّى إلا بواحد، ويُشترَط فيها ما يُشرَط من أمور: أن يكون المرء من أهل الكفاية والقدرة فيما أُنيط به، وإلا كانت التبع فوضى كأن لا سُراة لهم فيضيعوا. يقول صلى الله عليه وسلم: لا يحلّ لثلاثة بفَلاة من الأرض إلا وأمّروا أحدهم. ففي هذا المقام فإن المسؤولية تقع في أداء هذا التكليف على جهتين؛ الأولى وهي مَن سيقبل التكليف، والثاني من سيتولى التّعيين أو الترشيح أو التّنسيب أو الاختيار. فينبغي أن لا يقع الاختيار عن هوىً؛ لأن في هذا الضلال، ولا عن انعدام ؛ لأن في هذا مخاطرةً في الاختيار. وأيّ ضياع يكون بين الضلال والمخاطرة؟ فينبغي أن يكون البحث عن علم وبيّنة، وأن يكون الاختيار لمن هو أهل لما يتولّى؛ لا قُربَ صُحبة أو قرابة أو معرفة أو أيّة علاقة. فإن الاختيار، سيما لدين الله، هو أمانة عند الاختيار واطمئنان على أداء من اختِير بعد الاختيار. إن الوقوع في سوء الاختيار أو التعيين أو التنسيب يعني بالضرورة التأثير على سير أيّة جماعة سيراً مُتعثِّراً متناقضا ومتردداً في ظروف لا يجوز معها إلا الحَسْم والاستقامة والوثوق، ما يؤدي إلى سوء المُنقلَب وقُبْحِ العاقبة. ويوم أن أهمل المسلمون في هذا الباب وحلّ عدم الاكتراث أدى ذلك إلى التّنكُّب عن جادّة الحق والصواب، فإن ضعف الرجال ذوي المسؤولية على أعلى المهام ينطوي على مخاطر تُوْدي إلى موارد الهلاك .
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جُهّالهم سادوا
وفي هذا المقام لا بد من ذكر أمرين في غاية الأهمية، أوّلهما: إن مَن يجد في نفسه القدرة والكفاية على سد ثغرة من هذا القبيل في تولّي أية مسؤولية، وذلك عن تجرِبة مُثبَتة وخبرة فيها ومراس وعبرة ، وعن استئناس بأهل الرأي والفطنة، فإن أمثال هؤلاء لا بل لهم أن يُقدِّموا ويُقدَّموا بل يُدفَعوا أو يحاسبوا؛ لأن تنحِّيَهم لمن هم أقل منهم فيه إضعاف، إن لم يكن إهلاك. وأمرٌ ثانٍ هو أن مَن لا يملك خبرة ولا تجربة في الموضوع المطلوب وفي التكليف الخاص المفروض، ولا يملك طاقة قوية ودراية مُغنِيَةً، فخير أن لا يَقْدُمَ، وإن شجّعه مَن حوله وألحّ عليه صَحْبُهُ؛ فلا قيمة لرأيهم ولا رَشَدَ باتباعهم؛ لأن من وراء ذلك ما لا يُحمَد عُقباه ولا يُتَّقَى شرُّه؛ لأنها أمانه وإنها يوم القيامة خزي وندامة..... إلا من أدّاها بحقها). وحقُّها القدرة والكفاية، وإحاطة الرعية بالحكمة والحلم والرفق في موطنه، والشدة في موطنها وبحق الله. لقد طلب أبو ذرٍّ رضي الله عنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُؤمِّره (فحذّره رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا: يا أبا ذر إنك رجل ضعيف ....).
وإن في هذا لبلاغا لأهل الرأي ومن يكونون حول أي رجل ضعيف – ولو كان ابن الأكرمين أو ابن السّبعين – يريد أن يُقْدِمَ على تولّي أي شيء بالاختيار والانتخاب، حُقَّ على من حوله أن ينهاه ويزجره ويصارحه ويرشده؛ فنحن أمة خيرها بنُصحها ومحاسبتها وبتواصيها بالحقّ فيما بينها.
وأما ما يقال عن ترفُّع بعض الصحابة عن تولي الإمارة عند الاختيار، مع أنهم من أهلها وزيادة، فالجواب على ذلك أنه لن يفر أحد منها إلا لمن هو أقدر وأعلى كعباً منه. وفي هذا الدقة في الالتزام المطلوب، وهو بُعدٌ ثابت مهمّ. فلا بد لمن هم خيرتنا أن يفسحوا المجال لمن هم خيرة الخيرة وصفوة الضفوة، والأكثر قدرة. وبعد آخر مهم، فإنهم كانوا يحسبون لها باعتبارها أمانةً ألف ألف حساب؛ لأن التقصير فيها يعني الويل والثُّبور. حتى إن أحدهم بعد أن تولاّها عاشها قهراً وشدةً وخوفاً، لا يهنأ بنوم ولا يرويه ماءٌ، ولا تتّسع له الأرض بما رحبت. وهذا التكليف وإن كان ممّا هو من قبيل العقلية والنفسية، إلاّ أن ميزته أن لا يؤدَّى إلا بتكليف خاص، ابتداءً في طلب الشارع؛ حيث إنه قد حصره أصالةً بواحد، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (...إلا أمّروا أحدهم).
ثانيها: أ - ما هو من قبيل العقلية للأهمية، وأما النفسية فهي لازمة؛ حيث إنه لا سلوك إلا بالنفسية، ولا يؤدى التكليف إلا عن نفسية، ولكنّ المقصود هو أن موضوع التكليف لا يؤدَّى إلا بعقلية واعية راجحة، وهذا يكون من قبيل المحاورين والمناظرين والمتحدّثين في المهمات؛ في محاسبةٍ أو نصيحة أو إيصال مُذكِّرة بلسانٍ طَلْقٍ بليغ. فإن عنصر المفاجأة يقتضي سرعة البديهة، والمراوغة تقتضي سرعة الانتباه، وموقف يُحسَب فيه الكلام بالحرف يقتضي الدقة بنقطة الحرف، والمحاججة تقتضي حضور البديهة وقوة الاستدلال واستظهار الادلة ووضوح الرؤية، والاسترسال في محله والاقتضاب في محله، وهذا لعمر الحق لا يقدر عليه إلا القلة القليلة. ولا يؤدى بالجرأة وحدها مع لزومها، ولا بحب الخير مع ضرورته. وعليه فإن التكاليف الخاصة التي تكون من هذا القبيل هي ثغرة لا يسدها إلا أهلها؛ فحرام أن يتأخروا عنها بحجة أن الخير في الجميع، وأن الجميع يشربون من نفس العين ويستضيئون من نفس المشكاة، وجريمة أن لا يبادر قديرٌ بأقل من قادر؛ لأن هذا زهداً في غير محله. وانتقاص قدر الدعوة فيه جرأة على عظمتها لا يجرؤ عليها إلا خاسر عاقٌّ آيِسٌ. فحريّ بنا أن نعطي أنفسنا قدرها، وأن نُسخِّر أنفسنا للدعوة لعُلوّ قدرها، وأن يتصور كل واحد منا مكانه في السّريّة حتى تظل قائمةً بالحق على أصولها؛ حتى تكون أهلا لوعد الله لها بالتثبيت والنصر. وليعلم أحدنا في هذا المقام بأنّ نفعَه وخيره عامّ لا يعلم أجره إلا الله، وأن بتقصيره ضرراً لا تُحمد عُقباه، لا على نفسه، بل هو عام أيضا. فليتّق الله في نفسه وأهله والناس أجمعين. هذه هي حقيقة هذه الدعوة فهي المسيرة المنفردة في هذا الزمان؛ مسيرة عزٍّ للإسلام، وعليها تُعقَد الآمال؛ لا آمال المسلمين فحسب، بل أمل العالم كله في هذه الدعوة والحزب. بهذه الرؤية يجب أن أرى عملي ووظيفتي في هذه الدعوة، والتي تعتبر التكاليف الخاصة بمثابة الأسس؛ ترفع بها دعائمها فهي مهام قيادية في كافة مفاصلها ومواقعها. يقول الرسول عليه السلام : " أنت على ثغرة من ثغر الاسلام فلا يؤتين من قبلك "
ب : فهو ما يتعلق بالنفسية بمواضع حساسة؛ منها ما يتعلق بجوانب فطرية بالأصل التقت كطاقات أودعها الله وميز بها حاملها مع طاقة العقيدة إن استقرت في النفوس؛ فهي تجعلها لا ترى صعباً ولا تكترث بما حولها من تحديات، وقد حرص الإسلام كل الحرص على بناء النفسية الإسلامية على أعلى حدٍّ من الصبر والتحمل؛ فقد اعتبر الأخذ بالعزيمة أوْلى من الأخذ بالرخصة في مقامٍ تُهان به العقيدة، أو يُكفَر بها. وقد اقتضت سلامة بناء الحزب المبدئي ووجوب صلابته أن يلزم الجميع تكليفاً عامّاً بالصلابة والنضالية، وضرب الأمثلة والسبق إن أمكن، في الثبات والتحدي أمام الظّلمة. وإن عكس ذلك هو الخذلان المهين والخنوع الذميم. فكيف إذا كان التكليف مخصوصا في التكاليف الخاصة والتي تستلزم أن تظهر الدعوة بالمظهر الواجب اللائق المُشرِق، ما ينبغي أن تكون الصلابة والثبات والتّفاني في أعلى المعايير، حيث يستلزم تحقيق السبق والندرة في المثال قياساً مع التاريخ. لقد ضرب شباب الدعوة مثالَ سَبْقٍ تشهق به نفوسُنا حمدا لله وعزّاً وعلوّاً على أعدائه يوم أن وضعوا أكفانهم في حقائبهم عندما كُلِّفوا بالذهاب لتقريع قذّافي ليبيا، يومها علمنا أن دعوةً هذا حالُ شبابها في علوِّ نفسياتهم، حقٌّ على الله أن يرفع لها ذِكرا، وأن يُعظِمَ لها أجرا وأن يعطيَها نصراً ولو بعد حين، إن قذف النفس في الموت أهونُ من أن تسير إليه ببطء، وأن تسير له ببطء أهون من أن تَجمَع بين استجماع الفكر وحضور البديهة وتستحضر الأدلة والاستدلال بها، تجمع معها السير إلى الموت ببطء؛ فإن هذا وربِّ الدعوة لَهُوَ السبقُ في ضرب أروع الأمثلة على الإطلاق عبر التاريخ والمستقبل، وهذه الحالة وحدها التي استحقت منزلة سيّد الشهداء حمزة. ومنه قول الرسول صبى الله عليه وعلى آله وسلم : " ‏إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ كَلِمَةَ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ ‏ ‏ جَائِرٍ " .
إنه لَعَمْرُ الحق لحقٌّ بأن عبء التكليف الخاص الجامعِ بين علوِّ العقلية وسمو النفسية، أصعبُ الصَّعْب، وإن منزلة المقبول فيها عند الله عظيمة؛ ما يُحفِّز الرجال على التنافس عليها فيهتمّون بتقوية عقلياتهم اهتماما بالغا ، وأن يشحنوا نفسياتهم شحناً مستمرا ، أو بناءً ارتقائيّاً دائما يرفع به حامل الدعوة بإذن الله مكانه كي يكون مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقيين والشهداء وحسن أولئك رفيقا. لقد استحثّ الرسول صلى الله عليه وسلم صحابَتَه وبناهم على السبق للمهمات الصعبة والتكاليف الخاصة؛ ففي يوم الخندق والزلزلة، يوم أن كان المرء يخشى أن يذهب لقضاء حاجته، دعا صلى الله عليه وسلم صحابته بالتخيُّرِ بتكليف خاص يفحص به الهمم ويشحَذُها قائلاً (ألا رجل يأتيني بخبر القوم، جعله الله معي يوم القيامة؟...) لَيُفْهَمُ من ذلك أمران؛ أوّلُهما أن التكالبف الخاصة لا بد أن تكون في ضمن إطار يسبق فيه بناء الشخصية على أعلى الاستعدادات، وثانيهما أن يكون اختيار المُكلَّف ضمن معيار فاحصٍ يكون في البحث في الخيرة عن أعلى استعداد بين مَنْ هم أهل، فلا يكلَّف أضعفُهم ويُبتَعد عن مُتردِّدهم، ولا يشجَّعُ مُقبِلُهم بل يُختار مسرعُهم عن ثقةٍ ورجاحة، لا عن تهوُّر. ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم : ( لأعطينّ الرايةَ غداً رجلاً يحبه اللهُ ورسوله). حتى إن عمرَ بنَ الخطاب رضي الله عنه قال: ( إنني لم أتمنّها يوما إلا في هذا المقام .......). وفي هذا ترغيب بتحقيق المثل الأعلى للمكلف وهو نوال رضوان الله ورسوله،قال تعالى : " وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)" التوبة ، ودفعٌ لكل من يحمل الأهلية دون غيره؛ أخذاً بالأسباب من جهة المكلِّف، وتحقيق أقوى استجابة من جهة المكلَّف.
إن من أعظم وأهم ما يجب أن نتعلَّمَه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أنه كان قبل أن يعرِضَ التكليف الخاصَّ على من هم أهلُه، كان يهيّء له أجواءه، ويرفع نفسيّاتِهم للاستعداد لقبول أشقِّ التكاليف لا أيْسَرَها، وأصعبِها لا أسهلَها، وأبعدِها شقّةً وأكثرِها مشقّةً، فيرغّبهم بعظم أجرها ويشرفهم بكرامة منزلتها وعِزِّ أَثَرِها؛ فكم من الخيرات العميمة معقودةٌ على التكاليف الخاصة، وكم من الآثار البالغة كانت نتائجَ عمليةً لمثل هذه التكاليف؟ فإنه صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه من خيبر خرج يوما على أصحابه فقال: ( أيها الناس، إن الله قد بعثني رحمةً وكافّةً، فلا تختلفوا عليَّ كما اختلف الحواريُّون على عيسى بن مريم)، فقال أصحابه: وكيف اختلف الحواريّون يا رسول الله؟ قال: ( دعاهم إلى الذي دعوتُكُم إليه؛ فأمّا من بعثه مبعثاً قريبا فرضي وسلم، وأما من بعثه مبعثا بعيدا فكَرِهَ وجهُهُ وتثاقل )، وذكر لهم أنه مرسِلٌ إلى هرقل وكسرى ...، نعم إنه رغم أنه صنعهم على عينٍ بصيرة، وربّاهم عن خيرِ مُربَّى وخير ما يُربَّى عليه بشرٌ، وهم محل ثقة واطمئنان، ويكفيهم تزكيةُ الله لهم، ويكفيهم أنْ حَفِظَ اللهُ بهم دينَه، الرسالةَ الخاتمة. إلا أنه كان لا مناص من دوام تذكيرهم ومتابعة تزويدهم، وتهيئةِ نفوسهم على الدوام على أصعب التكاليف الخاصة وأثقلِها وأبعدِها، وأن يكونوا على أعلى جهوزية في أي ظرف أو حين.
تنطق الحقيقة الأكيدة بأن التكاليف الخاصة لهي على جانب عظيم في حمل المسؤولية وأداء الامانة وتحقيقِ الأهداف، بأقدام راسخة وأنجاز المهمات الضرورية، وتحقيق القفزات النوعية في حياة أيِّ مسيرة، وأنّ عليها تتوقف مفاصلُ مهمةٌ من بناء الحلقة، ومهمتها مرورا بكثير من المتابعات الهامة لإدامة اتصال سليم بين خلايا الكتلة، وانتقالا لقيادة الأعمال السياسية التي هي الجوهر والمظهر للحزب، ووصولا باقتحام المخاطر وأداء أدقِّ الأدوار اللازمة إلى الغاية المنشودة. وإن التكاليف الخاصة لعلى جانب عظيم في حقيقتها؛ كيف لا وهي التي كانت أسبقَ من التكاليف العامة في الإيجاد والوجوب. فهي أول ما كُلِّف به الانبياء؛ فالنبوة تكليف خاص سبق التكاليف العامة، فشُرِّفت بها التكاليفُ الخاصة لتُكسِبَها مكانةً هي بحقٍّ ترفع الهممَ لتحقق أعظمَ مبتغى؛ فأيُّ مكانةٍ وأي شرف أن يُكرَمَ المرءُ بتكليف خاصٍّ أوّلَ ما بدأَ به أصالةً الأنبياء؟ وأما العامُّ فلا مِيزةَ له بين البشر، بل الجميع أهلُه ومتساوُون في التكليف به، ومرورا بأول تكليف خاص وتشريف عظيم تَشرَّفَهُ مصعبُ بن عمير في مهمة بناء القاعدة الشعبية، نواةِ الدولة الإسلامية الأولى في المدينة؟ ألم يكن البناء الأوّلُ الذي عمّ البشريةَ بالخير والنهضة نواتُه كانت بتكليف خاصّ؟ وهكذا أيضا كان استفتاح الاتصال بالعالم الخارجيِّ لإظهار الإسلام على الدين كله بتكاليفَ خاصّةٍ للرسل إلى الملوك حول الجزيرة. وكل قائد أو أمير أو أيُّ مسؤول عبر مسيرة الإسلام؛ ماضِيَها وحاضِرَها، أسهم ويسهم في رِفعةِ هذه الأمة وسعادة البشرية إنما هو من هذا القبيل، لَيُظْهِرُ بكل وضوح معنى التكاليفِ الخاصّة والمهمات، ومدى أثرِها في حاضر الأمم ومستقبلها، بل وفي مجرى التاريخ كلِّه.فانظر كيف تنافس السابقون لينالوا شرف " ‏لَتُفْتَحَنَّ ‏ ‏الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ ‏ ‏ فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ "
وخُلاصة القول، إن التكاليف بشكل عام، وإن كانت ثقيلةً نَأَتْ عن حملها السماواتُ والأرض والجبال، إلا أنه لِمَنْ أدّاه تشريفٌ وكرامة وعظيمُ أجر، وثوابٌ ورضوانٌ من الله أكبر. وأما التكليف الخاصُّ فإن ذروةَ الثِّقَلِ فيه بل منه الإشفاقُ والمشقة، وبالمقابل فإنه حجرُ الزاوية، بل ويشكِّل مفاصلَ لا غنىً عنها في الرفعة والنهضة، وهو بدونه تتعطل المسيرة، فجماع الخير العميم معقود على همم الرجال الذين لا يركَنون ولا يلينون ولا يهدأون، إلا وهم يعيشون بهذه المهام بالليل والنهار وبُعدٍ عن الأهل والمال والبنون، حتى يُتِمَّ اللهُ هذا الأمر، فهم أمل الأمة وهم قيادة هذا الجهد العظيم في كافة مواقعهم ومواقفهم، فاللهم أَمِدَّهُم وأنزلْ عليهم السكينةَ من عندك، وارعاهم بعينك وافض بقدرتك عليهم من بركاتك، وهيِّءْ لهم الرَّشَدَ بعد الرشد، وأحْسِنْ عاقبتَنا في الأمور كلها، وهيء لنا أمراً رشيداً تُعزُّ به الإسلامَ وأهلَه؛ "ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ " سورة فاطر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق